اوراق خاصة

لماذا حظرت إيران هذا التطبيق؟

post-img

* د. جمال مسلماني/ خاص موقع "أوراق"

تحقيق خاص في البعد الاستخباراتي للصراع الرقمي الإيراني– الإسرائيلي

في السابع عشر من حزيران 2025، أصدرت السلطات الإيرانية توجيهًا رسميًا غير مسبوق دعت فيه المواطنين إلى حذف تطبيق "واتساب" من أجهزتهم المحمولة. هذا القرار لم يُقدَّم بوصفه إجراءً تنظيميًا روتينيًا، بل جاء في صيغة تحذير علني أُعلن عبر القنوات الرسمية متزامنًا مع تصعيد عسكري إسرائيلي استهدف منشآت نووية وعسكرية داخل إيران، وبعض مراكز الاتصالات الحيوية.

قرار الحظر لم يكن منعزلاً، بل جاء ضمن حزمة متكاملة من الإجراءات شملت حظر بعض التطبيقات الأخرى، وبعض عمليات التقييد لشبكة الإنترنت المحلية الوطنية وتعطيل واسع لأدوات تجاوز الحجب (VPNs).

على الرغم من أن كثيرين قد نظروا إلى القرار الحكومي السيادي من منظور تقني أو حقوقي، إلا أن السياق الأمني والاستخباراتي الذي فرض نفسه على البلاد يضع هذا الحظر ضمن إطار مختلف تمامًا. إذ ما أقدمت عليه طهران لم يكن مجرّد تنظيم للفضاء الرقمي، هو يمثل ردًا سياديًا مباشرًا على تهديدات أصبحت أكثر تعقيدًا من أن تُواجه ببيانات صحفية أو حملات توعوية تقليدية. إيران قد دخلت فعليًا في مرحلة ما بعد الردع التقليدي، حيث تحوّلت التطبيقات الرقمية إلى منصات رصد واستطلاع، والمستخدمون إلى مصادر بيانات حيّة!

كما بات معلومًا، تطبيق الواتسآب يعتمد على بروتوكول تشفير من الطرف إلى الطرف (E2EE)، وهو ما يُسوّق له عالميًا على أنه ضمانة لخصوصية الاتصالات بين المستخدمين. إلا أن هذا التشفير، مع أهميته، لا يشمل ما يُعرف بالميتاداتا "Metadata" التي تبقى قابلة للجمع والمعالجة والتحليل. هذه البيانات، والتي قد تشمل الموقع الجغرافي وتوقيت الاتصال ومدة الاستخدام وطبيعة الجهاز وتكرار التفاعل مع جهات الاتصال، تُعدّ بحسب ما تؤكده تقارير استخباراتية وتقنية أحد أهم مصادر المعلومات الخام لأدوات التحليل المعلوماتي أو التسويقي أو الاستخباري أو السيبراني وغيرها، سواء في الأوساط التجارية أم الأمنية.

عبر تتبّع هذه البيانات، تستطيع الجهات ذات النفوذ التكنولوجي بناء خرائط اجتماعية وسلوكية للمستخدمين، ومعرفة أنماط تفاعلهم وتحديد تحركاتهم، وحتى تصنيفهم وفقًا لمؤشرات رقمية قابلة للتحليل الاستخباراتي تحت غطاء الأهداف "التسويقية" وغيرها.

كل ذلك يجري من دون الحاجة إلى الوصول لمحتوى الرسائل بحد ذاته؛ ولو أن هناك أنظمة وبرامج وأدوات تجسسية تستطيع الوصول إليها، بل من خلال بنية البيانات التي تُرافق كل استخدام للتطبيق. كما لأن هذه البيانات تُخزّن وتُدار في بنية تحتية تقع خارج الحدود الإيرانية، فهي عمليًا خارج نطاق الرقابة الوطنية والسيادة الرقمية الوطنية، وتبقى خاضعة لقوانين امتثال البيانات الأميركية، ما يضعها في متناول أجهزة استخبارات غربية أو حتى شركات أمن سيبراني ذات صلات مشبوهة.

لفهم مدى خطورة هذه "الميتاداتا"، لا بد من الإشارة إلى التجربة الإسرائيلية الأخيرة في العدوان على غزة  2023 - 2024، حيث كشف استخدام منظومة ذكاء صناعي تُعرف باسم "لافندر"، طُوّرت ضمن وحدات تابعة للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، وتحديدًا وحدة 8200 المتخصصة في اعتراض وتحليل الإشارات والاتصالات. هذه المنظومة، كما كشفت صحيفة The Guardian ومجلة +972 في نيسان 2024، استُخدمت لتحديد أهداف بشرية في القطاع، بالاعتماد فقط على التحليل الرقمي للبيانات السلوكية للمستخدمين.

البرنامج لم يعتمد على معلومات استخبارية تقليدية، بل استند إلى خوارزميات تصنيفية قامت بتحليل "الميتاداتا" الناتجة عن استخدام تطبيقات المراسلة، أنماط الحركة، المواقع الجغرافية، وسلوكيات الاتصال الرقمي. ومن خلال هذه المعطيات، أُنتجت قوائم استهداف تضم أكثر من سبعة وثلاثين ألف اسم، نُفذت بحقهم عمليات قصف بطائرات مسيّرة، في كثير من الحالات من دون "مراجعة أو تحليل بشري" يُذكر، وفي أحيان أخرى بناءً على مؤشرات رقمية هشّة للغاية.

هذه السابقة الاستخباراتية غير المسبوقة تضع احتمال استخدام الأسلوب ذاته ضد إيران في دائرة الجدية القصوى؛ فإذا كانت البيانات المستخلصة من تطبيقات مثل "واتساب" قادرة على تغذية أنظمة تصنيف آلية تؤدي إلى اتخاذ قرارات قصف مباشر، فإن ترك هذه التطبيقات نشطة في بيئة مهددة أمنيًا يُعد، وفقًا للتقييم السيادي، نوعًا من التساهل الخطير الذي لا يتناسب مع طبيعة التهديد.

ما يميز المقاربة الإيرانية، في هذا السياق، أنها لم تتعامل مع الحظر بوصفه تدبيرًا رقابيًا، بل كونه خطوة من خطوات الدفاع الوطني والسيادي الرقمي. في التصريحات الرسمية الأخيرة، تحدّثت وزارة الاتصالات الإيرانية عن: "ضرورة التصدي لاختراق البنية المعلوماتية للمواطنين"، مشيرة إلى: "توفر دلائل تقنية على نقل بيانات حرجة عبر تطبيقات خاضعة لسيطرة شركات مشبوهة"!

بالتوازي مع هذا التصريح، اتخذت الدولة إجراءات داخلية أكثر صرامة، منها حظر استخدام الأجهزة الذكية داخل الوزارات والمؤسسات الأمنية، وتعليق خدمات الإنترنت الفضائي (مثل ستارلينك) التي أعلن إيلون ماسك عن إتاحتها في إيران فور بدء الحجب. وهي خطوة رُفضت كونها تمسّ سيادة الدولة وتفتح نافذة إضافية لاختراق الرقابة السيادية.

هذه الإجراءات، على الرغم من انتقادات منظمات حرية الإنترنت، تمثل من الناحية الأمنية ردًا استباقيًا يهدف إلى منع تسرّب البنية المعرفية للمجتمع الإيراني إلى منصات تُدار وتُموّل من خصوم سياسيين وعسكريين. المعركة لم تعد متصلة بحرية التعبير فقط، بل تتمحور في السيطرة على طبقات البيانات التي أصبحت؛ في زمن الذكاء الصناعي، قابلة للتحويل إلى قرارات تنفيذية مدمرة ومميتة!

منذ سنوات، لم تكن المواجهة بين إيران وكيان الاحتلال الإسرائيلي محصورة في السلاح التقليدي؛ فقد كشفت عدة تقارير دولية تورّط جهات سيبرانية إسرائيلية وأميركية في شنّ هجمات إلكترونية استهدفت البنية التحتية الإيرانية، أبرزها هجوم "ستوكسنت" في العام 2010، والذي أدى إلى شلل أكثر من ألف جهاز طرد مركزي في منشأة "نطنز" النووية. حينها؛ صُنّفت أول "سلاح رقمي" يستخدم في ضرب منشآت استراتيجية في تاريخ الحروب الحديثة. جاءت، بعد ذلك، فضيحة استخدام برنامج "بيغاسوس" الإسرائيلي في العام 2019، عبر استغلال ثغرة أمنية في "واتساب"، لاختراق هواتف عشرات الصحافيين والناشطين في العالم، بمن فيهم مستخدمون في  منطقة غرب آسيا (الشرق الأوسط).

هذه الحوادث لا تُقرأ في سياق حوادث منفصلة، بل هي جزء من منظومة مترابطة من الأدوات السيبرانية المتعددة الطبقات، والتي تُدار بطريقة هجينة تمزج بين التقنية والاستخبارات والاستغلال القانوني للبنية التحتية العالمية للإنترنت. والحصانة الحقيقية لا تكمن في التكنولوجيا وحدها، أيضا في القدرة على التحكم السياسي والتشريعي بمسارات البيانات.

في ضوء ما سبق، يُصبح من الواضح أن قرار إيران حظر "واتساب" لم يكن قرارًا عشوائيًا؛ بل إجراء تنفيذي استراتيجي نابع من قراءة واقعية لميدان أصبح فيه هذا التطبيق المجاني وغيره أداة تجميع بيانا.، والهاتف الذكي جهاز استشعار ورصد واستطلاع حربي، والمعطيات الرقمية أساسًا لبناء بنك أهداف لا برسم الخرائط؛ بل عبر "الخوارزميات" القاتلة!

إنها ليست معركة على التطبيق وغيره من التطبيقات، بل معركة على حق الدولة في حماية سيادتها الرقمية وبنيتها المعلوماتية من الاستثمار الاستخباري. وكل ما لا يُفهم ضمن هذه المعادلة، سيبقى أسير النظرة السطحية لما يُقال، لا لما يُخطط له في الكواليس الاستخبارية الرقمية.

* رئيس لجنة الخبراء الفنيّين والرقميين في شبكة التحول والحوكمة الرقمية في لبنان
* استاذ محاضر واستشاري متخصص بالامن الرقمي والسيبراني والذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي

المراجع:

•  AP News. (2025, June 17). Iran urges citizens to delete WhatsApp amid security concerns. Associated Press.

https://apnews.com/article/d9e6fe43280123c9963802e6f10ac8d1

•  Citizen Lab. (2019, October 29). WhatsApp vulnerability exploited to deploy NSO Group’s Pegasus spyware. Munk School of Global Affairs & Public Policy, University of Toronto. https://citizenlab.ca/2019/10/whatsapp-nso-pegasus/

•  IEEE Spectrum. (2013, February 26). The real story of Stuxnet. IEEE.

https://spectrum.ieee.org/stuxnet

•  National Security Agency (NSA). (2014). Signals intelligence and metadata analysis capabilities [Declassified report].

https://www.nsa.gov/Portals/70/documents/news-features/declassified-documents/fact-sheets/fact-sheet-metadata.pdf

•  Rid, T. (2013). Cyber war will not take place. Oxford University Press.

•  The Guardian. (2024, April 3). Israel’s AI-powered kill list used in Gaza. https://www.theguardian.com/world/2024/apr/03/israel-ai-gaza-kill-list-lavender

•       +972 Magazine. (2024, April 3). Lavender: How Israel used AI to identify and kill targets in Gaza. https://www.972mag.com/lavender-israel-ai-targetin

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد