اوراق خاصة

زياد الرحباني.. وحده نسيج السيمفونية الأرقى

post-img

حسن نعيم/ كاتب وقاص لبناني

مع غياب زياد الرحباني لا يفقد لبنان فنانًا متعدد المواهب، متنوعًا ومبدعًا في الكتابة والشعر والإخراج المسرحي والتلحين والتمثيل والكلمة الحرة المقاومة الرافضة للظلم والقهر والحرمان فحسب، إنما يفتقد لبنان والعالم العربي ظاهرة فنية متكاملة لا تعوزها الرؤية التي تنطلق من وجع الناس وهموم الشارع لتصل إلى العالمية، بالنكهة اللبنانية والمزاج اللبناني الخالص.

حمل زياد الرحباني قضية العدالة الاجتماعية من دون أن يغرق في اشتراكية تقيده بسلاسل البروليتارية والشعبوية الهابطة، وإنما هو التزام بقضايا الإنسان المقهور والوطن المستباح والمقاومة الشريفة.

متكّمنًا من أدواته الفنية؛ حمل الرحباني هموم الوطن والإنسان، وقال ما لم يجرؤ كثيرون على قوله، بطرافة وظرافة منقطعة النظير. لذلك؛ طارت كلماته الفكاهية على ألسنة الناس، وبات كثيرون يحفظون مقاطع كاملة من مسرحياته، سواء "فيلم أميركي طويل"، أو "بخصوص الكرامة والشعب العنيد" أو نزل السرور التي يقول فيها: "بدك تصير مواطن صالح؟ امشي الحيط الحيط وقول يا ربّ الستر"..

لقد أصبحت هذه مثلًا شائعًا عن الخوف والرقابة وطريقا آمنا للحفاظ على المنصب والترقي لمنصب أرفع في مجتمع لا يتقبل النقد والرأي الآخر، مهما كان  صائبًا مخلصًا.

لقد كان زياد الرحباني نسيجًا وحده، حمل نبرته الواثقة وصوته الخاص الذي لم يشبه أحدا، ولم يشبهه أحد، وغرّد بعيدًا عن المدرسة الرحبانية التي انطلق منها ونشأ فيها. لم يرض أن يكون أسيرها، فلم يوفر حتى أمه وأباه وعمه وأركان العائلة الرحبانية من نقده وصراحته الجارحة في أكثر الأحيان.

بعيدًا عن أجواء البيت الرحباني العريق، والذي احترف الفنون، شق زياد دوربه الوعرة من بنات أفكاره، ومن إلهامه وصوته الخاص، محدثا تطورًا مهمًا، سواءا بنصوصه الساخرة أم مسرحياته الخارجة عن السائد أم موسيقاه الثائرة على كلاسيكيات الموسيقى اللبنانية والعربية.

بهذا الصوت وبهذه الفرادة؛ قدم زياد قيمة مضافة في تاريخ الموسيقى والمسرح اللبناني والعربي،  بعد أن استوعب تجربة البيت - الأشبه بمحترف فنون -  وبعد ان أفاد من فضاءاته في الكتَّابة والشعر والتمثيل والموسيقى.

الرحباني والمقاومة

ترتبط نظرة زياد الرحباني إلى المقاومة بفلسفة الفنان المبدع ونظرته الى المقاومة العسكرية، كونها العمل الميداني الذي يطبق الفكرة ويجسدها فعلًا منجزًا، فــ"زياد"، في مقابلاته ومقالاته كلها، كان ينطلق من رؤية فلسفية. زياد هو المثقف العضوي، على طريقة "غرامشي" الشيوعي المجدّد والمتمرد، والذي كان يبحث عن أمل صادق يبني عليه أحلامه في تغيير الحاضر لأجل مستقبل أفضل.. وهذا بخلاف العدد الكبير من الموسيقيين والملحينين في العالم العربي خصوصًا.. حيث التفاهة لإثارة البلاهة في تدمير ذوق الرأي العام الفني الملتزم.. وإبعاده عن هموم قضاياه الكبرى..

تبين أعمال زياد الرحباني موقفه الجذري من المقاومة اللبنانية، على اختلاف فصائلها، لا سيما المقاومة الإسلامية في لبنان، والتي جاءت برأيه رد فعل على الاحتلال الصهيوني المدعوم أمريكيًا، وسبق له أن عبر عن موقفه من الهيمنة الأمريكية في مسرحية حملت عنوان: "فيلم أميركي طويل" (1980)؛ أظهر فيها رؤية مبكرة وقراءة استشرافية للدور الأساسي الذي تؤديه الولايات المتحدة الأمريكية في الهيمنة على شعوب المنطقة بدعمها للاحتلال الإسرائيلي، وتدخلها السافر في شؤون لبنان الداخلية.

في مسرحية "نزل السرور"( 1974) ينتقد الرحباني النفاق السياسي الذي تمارسه الطبقة السياسية في لبنان والفساد المستشري في الإدارة اللبنانية.

أما في مسرحية "بخصوص الكرامة والشعب العنيد" (1993)؛ يظهر الرحباني موقفًا واضحا من التسويات المذلة مع العدو الإسرائيلي.

إلى أعماله المسرحية الآنفة كتب: سهرية- 1973.

- بالنسبة لبكرا شو!؟ - 1980.

- شي فاشل- 1983. 

- لولا فسحة الأمل - 1994 .

هذا بالإضافة إلى البرامج الإذاعية والمقالات الصحفية؛ كان له مجموعة شعرية بعنوان "صديقي الله" (1968).

إذا ما تتبعنا تصريحات الموسيقار العبقري الملتزم، في المقالات والمقابلات التلفزيونية، تتبدى لنا بوضوح خلفيته اليسارية المناوئة للاحتلال ولجماعة السفارات، بحسب وصفه، والداعمة لحزب الله الذي يراه "الخط الوحيد الجدّي في مواجهة إسرائيل".

زياد والسيد نصرالله

أما رأيه بالشهيد الأسمى السيد "حسن نصر الله"؛ فلم يخف الرحباني إعجابه وتقديره العميق لهذا القائد المقاوم الفذ الذي وصفه" بأصدق شخصية سياسية في المنطقة"، ويمكننا أن نقتطف من أقواله في وسائل الإعلام:

  "إذا بقيت الأمور على هذا النحو، فالشي الوحيد اللي باقي بيشرف هو السيد حسن نصر الله".

"السيد نصرالله نموذج للزعيم النظيف والمخلص، بعيدًا عن الفساد والطائفية."

"السيد نصرالله  هو أمل للبنان والعرب".

التقى زياد الرحباني بسماحة السيد الشهيد الأسمى مرتين، فزرع البسمة والضحكة البريئة على وجه السيد. وخرج من عنده، مرة، مفعما بالمعنويات والمحبة لهذا الرجل الذي علق عليه آمالًا كبيرة بمستقبل مشرق لهذه المشرق العربي الغارق في الجهل والتخلف والتبعية، الأمر الذي دفعه إلى تلحين نشيد "هذا السيد".

لقد رحل زياد الرحباني بعد مسيرة فنية إبداعية طويلة، وبعد أن شكّل ظاهرة فنية مغايرة، مشاكسة وصادمة للواقع في تاريخ الفن اللبناني والعربي، لتبقى أعماله وأقواله وسخريته اللاذعة تمس جوهر القضايا المعيشية التي توجع المواطنين والمهمشين في الأرض، ومن دون أن تكون هذه الأعمال بمجملها على حساب المستوى الفني، فلم يكن الالتزام الأخلاقي والوطني النبيل ليأخذ من فنية هذه الأعمال، ولو مقدار ذرة واحدة.

رحم الله هذا العملاق الكبير من عملاقة بلادي، وأسكنه مع سيده الذي أحبّ، وأيّد، وناصر.....

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد