نزار نمر/ جريدة الأخبار
«هيئة الإذاعة البريطانية» (BBC)، و«فرانس برس» (AFP)، و«أسوشياتد برس» (AP)، و«رويترز»، جميعها ارتبط اسمها بالدفاع عن السردية الإسرائيلية، وإن بنسب متفاوتة، تذرف اليوم دموع التماسيح
لا حاجة إلى إعادة تكرار معزوفة انحياز الإعلام الغربي بغالبه إلى آلة الحرب الصهيونية في السنتَين الماضيتَين، بل ارتضاء بعضه أن يكون جنديًا في هذه الآلة، وقد ورد على هذه الصفحات الكثير عن ذلك بالتفصيل.
ببساطة، دافع هذا الإعلام عن السردية الصهيونية، وأنكر وجود إبادة في غزّة قدر الإمكان، وضغط على موظّفيه وحتّى طردهم في بعض الحالات، ووظّف عملاء استخبارات صهاينة ليكتبوا له، وسخّف من القضية إلى حدّ اعتبارها مجرّد «نزاع» نشب بعد «عملية إرهابية». هو فقط «مرّر» بعض الأمور عن الإبادة بين الحين والآخر لحفظ ماء الوجه والاحتفاظ ببعض المتابعين في جوّ عام بات يرفض اقترافات الكيان.
بالحديث عن الجوّ العام، وبالأخصّ في الغرب، فقد جنح بشكل واضح في الآونة الأخيرة نحو القضية الفلسطينية، ولا سيّما في جانبها الإنساني، بعد جريمة التجويع الجماعي الوحشية التي يرتكبها الاحتلال. كما تضافرت عوامل أخرى، مثل تفاعل قضية المتحرّش بالأطفال جيفري إبستين ذات الارتباطات الصهيونية، وانخفاض شعبية الرئيس الأميركي دونالد ترامب بسبب هذه القضية وغيرها من إخفاقات، وتكفير بعض مسؤولي إدارة الرئيس السابق جو بايدن عن ذنوبهم باعترافهم بعلمهم بارتكابات «إسرائيل» حتّى عندما كانوا يخرجون إلى العلن لنفيها زورًا.
هكذا، أفاق بعض الوسائل الإعلامية الغربية من سباته رفضًا للمجاعة المفتعلة، وبات ينتقد «إسرائيل» على الملأ بعدما بلغ السيل الزبى وبات صحافيّوه في خطر الموت جوعًا.
انحياز الإعلام الغربي لإسرائيل: سردية أحادية وتواطؤ موثّق
«هيئة الإذاعة البريطانية» (BBC)، و«فرانس برس» (AFP)، و«أسوشياتد برس» (AP)، و«رويترز»، جميعها ارتبط اسمها بالدفاع عن السردية الإسرائيلية، وإن بنسب متفاوتة، ليس فقط في تغطيتها عن غزّة، بل كذلك لبنان وسوريا واليمن وإيران وكلّ مكان عبثت به أيادي الإجرام الإسرائيلي. حتّى إنّ بعضها ذاق صحافيّوه هذا الإجرام ولم يحرّك ساكنًا نصرةً لهم.
بيان مشترك لـBBC وAFP وAP ورويترز: دموع متأخّرة أم اعتراف بالذنب؟
أطلقت المؤسّسات الإعلامية المذكورة نداءً مشتركًا أمس، قالت فيه: «نشعر بقلق بالغ على صحافيّينا في غزّة الذين باتوا غير قادرين على إطعام أنفسهم وأسرهم. لأشهر، شكّل هؤلاء الصحافيّون أعين العالم وآذانه على الأرض في غزّة. الآن يواجهون الأوضاع المأسوية ذاتها كما هؤلاء الذين في تغطيتهم». وأضافت: «يتحمّل الصحافيّون حرمانًا ومشقّات كثيرة في مناطق الحرب، ونحن قلقون جدًّا من أنّ خطر الموت جوعًا بات الآن واحدًا منها». وخُتم النداء بمناشدة كيان الاحتلال «السماح للصحافيّين بالدخول إلى قطاع غزّة والخروج منه. من الضروري أن تصل الإمدادات الغذائية الكافية للناس هناك».
غياب ذكر الإبادة وتجاهل الضحايا: ملاحظات على البيان الغربي
صحيح أنّ البيان يُعتبر عالي اللهجة، وخصوصًا بالنسبة إلى الغرب، غير أنّ ملاحظات عدّة تحيطه. أوّلًا، لم يشر إلى الإبادة بأيّ شكل من الأشكال، واكتفى برفض فكرة المجاعة، وكأنّ الاحتلال لم يرتكب غيرها أيّ فظاعات من قتل وتدمير وتهجير وتفنّن بأساليب التعذيب. ثانيًا، تبدو المؤسّسات الإعلامية صاحبة البيان في جانب معيّن بصورة النرجسي الذي لم يستفق إلّا بعد أن وصل الموس إلى عنقه، مع العلم أنّها لم تكترث لصحافيّيها الفلسطينيّين يومًا بأكثر ممّا تحتاجهم إليه، وهم وحدهم مَن يواجهون الأخطار باللحم الحيّ. ثالثًا، تطلّ هذه المؤسّسات وكأنّها تقول «عفا الله عمّا مضى»، وتطلب الغفران مع مفعول رجعي بعد أن تسبّبت بنفسها بالكثير من معاناة غزّة اليوم.
إرث من التخاذل والتواطؤ: الإعلام الغربي تحت مجهر المساءلة
كان من الأجدى ألّا تشارك هذه المؤسّسات في آلة الإبادة، بدلًا من إصدار بيانات ذرف دموع التماسيح اليوم. صحيح أنّ الإعلان هذا قد يفيد في توثيق الإبادة بعد اعتراف بعض أهمّ أركان الإعلام الغربي بجريمة التجويع، لكنّ ذلك يدينهم أكثر ممّا يعفيهم، إذ إنّه اعتراف بالتواطؤ والتخاذل في كلّ الوقت الذي سبق. في الواقع، قد تكون محاربة طواحين الهواء أجدى من نضال الإعلام الغربي حاضرًا ومستقبلًا من أجل ترميم صورته وسمعته ومصداقيّته المشوّهة.