فاطمة الأمين/ جريدة الأخبار
في صباح بدا عاديًا للعالم، غير أن بوابة السجن الفرنسي انفتحت على لحظة غير عادية. رجلٌ نحيل الجسد، حادّ النظرات، خرج ببطء، بثباتٍ لا يشبه إلا أولئك الذين لم يُكسروا رغم الحديد. لم ينهزم. لم يتنازل. لم يساوم. خرج جورج إبراهيم عبدالله، أقدم سجين سياسي في أوروبا، كما دخل: مرفوع الرأس، وفي قلبه فلسطين.
وُلد جورج في بلدة القبيات العكّارية في العام 1951، وسط عائلة مسيحية متديّنة. لم يكن ابن الشمال الهادئ يتوقّف كثيرًا أمام الطقوس، بل سرعان ما انجذب إلى الفكر الثوري والقضايا الأممية. درس الفلسفة في الجامعة اللبنانية، ثم سافر إلى فرنسا لاستكمال دراسته، وهناك بدأت ملامح التزامه السياسي تتبلور بوضوح، لا سيما بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982. شكّل هذا الحدث لحظةً مفصلية في وعيه، فانضم إلى «الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية»، وأعلن انحيازه الكامل لخيار المقاومة المسلحة ضد الاستعمار، والإمبريالية، والاحتلال.
في العام 1984، أوقفت السلطات الفرنسية جورج عبد الله بعدما ضُبطت بحوزته أوراق ثبوتية غير قانونية. خلال فترة قصيرة، اتُّهم بالتورّط في عمليّات اغتيال طالت دبلوماسيَّين أميركيًا وإسرائيليًا. الاتهامات جاءت من دون أدلة دامغة تربطه بشكل مباشر بالجريمة، لكنّ السياق السياسي الذي حُوكم فيه، حول المحاكمة إلى استعراض واضح، وانتهى بالحكم عليه بالسجن المؤبّد سنة 1987. منذ ذلك الحين، صار اسمه يتردّد كواحد من أبرز رموز المعتقلين السياسيين في العالم، وعنوانًا محرجًا للدولة الفرنسية في ملف حقوق الإنسان.
برغم انتهاء محكوميته الفعلية منذ العام 1999، ظلّ في الأسر. أكثر من قرار قضائي قضى بالإفراج عنه، إلا أن الحكومات الفرنسية تجاهلتها تباعًا، تحت ضغط مباشر من واشنطن وتل أبيب. بقي جورج في الزنزانة لأنه ببساطة لم يرضَ بالصفقات. لم يعتذر، ولم يتراجع، ورفض التنازل عن مواقفه.
قضية تجاوزت الحدود: دعم سياسي واسع محلي ودولي
لم تعد قضيته محصورة بزنزانته في سجن لانميزان. في لبنان، استمرّت التحرّكات أمام السفارة الفرنسية، وارتفعت الأصوات في التظاهرات والبيانات. الأحزاب الوطنية، الحركات الطلابية، والمجموعات المقاوِمة، جميعها تبنّت قضيته. في فلسطين، اعتُبر أسيرًا سياسيًا وقريبًا من نبض الأسرى. أما في فرنسا، فشهدت قضيته تعاطفًا واسعًا من قوى يسارية ونقابية وحقوقية، تجمّعت مرارًا للمطالبة بإطلاق سراحه، وكتب عنه مثقفون وناشطون دوليون باعتباره نموذجًا لسياسة القمع المغلّف بالقانون. حتى الأمم المتحدة، في أكثر من مناسبة، أشارت إلى قضيته كمثال لانتهاك الحق في الحرية والمحاكمة العادلة.
الإفراج المؤجّل… والانتصار البطيء
في تموز 2025، وبينما يحتدم الصراع في المنطقة، أعلنت السلطات القضائية الفرنسية قرارها بالإفراج عن جورج عبد الله. القرار الذي كان يمكن أن يصدر قبل أكثر من عقدين، صدر أخيرًا تحت ضغط الواقع والفضيحة المستمرة. لم يكن انتصارًا لجورج وحده، بل لكل من آمن أن الكرامة لا تسقط بالتقادم، وأن فلسطين ما زالت تختزن رجالًا يقاتلون بصبر الصمت، كما يقاتلون في ساحات المعركة.
يخرج جورج عبد الله اليوم من السجن مرفوع الرأس، لم يبدّل تبنيّه لخيار المقاومة، ولم تتبدّل لهجته. رجل سبعيني، جسده أنهكه الاعتقال، لكن ملامحه ما زالت تحمل عنفوان القضية. «لن أخرج من فرنسا إلا إلى بيروت»، قالها مرارًا، وهو يدرك أن بيروت ستنتظره، كما تنتظر كل الأسرى، كل الأحرار.
بين الحرية والسجن… كان الموقف
ما يجعل من جورج عبد الله أيقونةً نضالية، ليس سنوات سجنه فحسب، بل رفضه المستمر لأي صفقة، أو مساومة، أو ندم. بقي وفيًّا لتاريخه، لم يُغْرِه الإفراج المشروط، ولم تُرغمه السنين على مراجعة قناعاته. وهذا ما جعل منه شوكة في خاصرة فرنسا الرسمية، ونموذجًا ملهمًا لكل من يعتقد أن العالم لا يتغيّر إلا بالفعل.
الحرية لا تُستجدى، تُنتزع
تحرّر جورج عبد الله بعد 41 عامًا، لا لأن فرنسا قرّرت أخيرًا أن تصغي للعدالة، بل لأن توازنات العالم تتغيّر، ولأن زمن المقاومين لم ينتهِ بعد. هو العائد من ظلام الزنزانة، ليقول لنا جميعًا: لا حرية دون مقاومة، ولا مقاومة دون وفاء، ولا وفاء دون ثمن.