لينا فخر الدين (جريدة الأخبار)
صحيح أن مجلس بلدية بيروت لا يزال في بداياته، وجلسته التي عقدها الخميس الماضي هي الثالثة فقط، إلا أن الخلافات التي بدأت تنخر «عظامه الطريّة» تنذر بما هو أسوأ، في ظل غياب أي رؤية إنمائية واضحة.
وهو ما يثير السؤال الجوهري: ماذا سيكون عليه الحال عندما يصل الأعضاء إلى الملفات الأكثر حساسية، كالتوظيفات والتعيينات، إذا كانوا عاجزين عن الاتفاق على بند رشّ المبيدات، خصوصاً في ظل غياب الكاريزما والحزم لدى مدير الجلسات والفساد المستشري بين موظفي البلدية، وشكوى بعض الأعضاء من عدم قدرتهم على المشاركة في النقاشات التي تتحوّل في كثير من الأحيان إلى مشادات وصراخ، إضافة إلى غياب الإلمام الكافي بالشؤون البلدية لدى غالبية أعضاء المجلس.
وقد بلغ التوتر ذروته في الجلسة الأخيرة، حين فقد رئيس البلدية إبراهيم زيدان أعصابه، إذ لم يجد على جدول الأعمال عرض أسعار كان قد تسلّمه من إحدى الشركات بنفسه، متهماً بعض الموظفين بالتواطؤ مع متعهدين وتفضيلهم على غيرهم، ما يجعلهم يخفون عروض الأسعار المقدّمة من الشركات الأُخرى، ناهيك باعتراض عدد من الأعضاء على إدراج هذا البند على جدول الأعمال في اليوم نفسه.
أما الأخطر فعلياً، فهو الانقسام الطائفي الكامن بين أعضاء المجلس، والذي بدأ يطفو على السطح منذ الجلسة الثانية، حين طُرح موضوع التوازن الطائفي في توزيع الخدمات، قبل أن يظهر بشكل أكثر فجاجة في الجلسة الأخيرة. إذ بدا واضحاً أنّ ثمة تبايناً في الأولويات بين الأعضاء المسيحيين والمسلمين.
فقد أصرّت غالبية الأعضاء المسلمين على المضي في مناقصات رشّ المبيدات كما هي، رغم ما شابها من شبهات، سواء لجهة ارتفاع الأسعار بشكل مبالغ فيه، أو وجود «كومبينات» من تحت الطاولة، فضلاً عن أن بعض العروض مقدّمة من شركات لا تملك الاختصاص المطلوب، كأن تقدّم شركة هندسية مثلاً عرضاً لرش المبيدات.
وبرّر هؤلاء استعجالهم بتفشّي حالات طفح جلدي في بيروت، واجتياح أعداد كبيرة من الجرذان والفئران للأحياء الشعبية.
وطالب العضو محمد بالوظة بالإسراع في رشّ المبيدات وتنظيف المجاري تحسّباً لفصل الشتاء، كما دعا إلى تخصيص سلفة لتزفيت الشوارع وردم الحفر، والاستعداد لأزمة النفايات المقبلة، في ظل رفض بعض الأعضاء التمديد لعملية طمر النفايات في الكرنتينا.
وسانده في هذه المطالب العضو المحسوب على «جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية» أحمد شاتيلا والعضو المحسوب على الحزب التقدمي الاشتراكي رامي الغاوي اللذان شددا على أن أبناء بيروت لا يستطيعون الانتظار أكثر لرشد المبيدات، خصوصاً أنّ وعوداً قدمت في الجلسة السابقة بإنهاء هذا الملف.
في المقابل، أصرّ معظم الأعضاء المسيحيين على رفض الموافقة على هذه العروض، بسبب الشبهات التي تحيط بها، منطلقين من قاعدة أنّ «مناطقهم» لا تحتاج إلى استعجال رشّ المبيدات، طالما أن السكان في «بيروت الأولى» لا يعانون من تفشيات مماثلة.
وفيما احتدم هذا الانقسام، بقي عدد من الأعضاء خارج إطار النقاش، معتبرين أن الموضوع أُعطي حجماً أكبر من اللازم، وأن النقاشات ذهبت إلى عمق غير مبرّر، في حين كان يمكن حسمها في ساعة واحدة فقط، بدلاً من أن تستنزف أكثر من عشر ساعات على مدى الجلستين الأخيرتين.
ورأى هؤلاء أن البلدية، حتى اليوم، لم تسجّل أي إنجاز يُذكر، لا على مستوى المشاريع الإنمائية، ولا حتى في التقدّم بالمناقصات بشكل قانوني، مع الاستمرار في اعتماد سياسة السِّلف، في وقت تنتظر فيه البلدية تحديات أكبر بكثير، في مقدّمتها أزمة النفايات.
وأكد أعضاء أن الجلسة بدأت أصلاً وسط أجواء متوترة، إذ تأخر رئيس البلدية عن الحضور لأكثر من ساعة، مبرراً ذلك بانشغاله بمتابعة سير أعمال البلدية عبر اجتماعات مع الموظفين. وما إن بدأت الجلسة، حتى بادر زيدان إلى توجيه انتقاد لأحد الأعضاء متهماً إياه بتسريب معلومات إلى وسائل الإعلام، ما زاد من حدّة التوتر داخل القاعة، قبل أن تتفاقم النقاشات على خلفية العروض المقدّمة لرش المبيدات وتنفيذ أعمال التشجير.
وأصرّ رئيس البلدية على رفض السير بالعروض المقدمة، واقترح بدلاً من ذلك أن تشتري البلدية المبيدات بنفسها، على أن يتولى عمال البلدية رشّها في الأحياء. غير أن هذا الاقتراح قوبل باعتراض عدد من الأعضاء، من بينهم بالوظة الذي عبّر لزيدان أن تطبيق هذا الحل غير ممكن عملياً، نظراً إلى أن الدائرة الصحية المسؤولة عن هذه المهمة لا تضم سوى موظفة واحدة، هي رئيسة الدائرة. كما رأى أعضاء آخرون أن هذا الطرح يعني عملياً تعطيل المهمة برمتها، إلا أن زيدان أصرّ على موقفه، وانتهت الجلسة من دون إقرار أي من البنود العشرين المدرجة على جدول الأعمال.
غير أن الإشكالات لم تنتهِ بانتهاء الجلسة، إذ اشتعل النقاش على مجموعات الدردشة التابعة للبلدية، بعدما علم الأعضاء مساء السبت، وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، بأن شركة «بويكير» قدّمت هبة للبلدية تتضمن تنفيذ حملة شاملة لرش المبيدات في مختلف أنحاء العاصمة، من دون أن يتبلّغوا ذلك مسبقاً من رئيس البلدية الذي أعلن عن الحملة عبر صفحة البلدية الرسمية، ما أثار استياء أعضاء اعتبروا أن في ذلك تجاوزاً لدورهم، وتكراراً لنهج التفرد بالقرارات، كما حصل سابقاً عند قبول هبة من مؤسسة النائب فؤاد مخزومي من دون إشعارهم.
وفيما دافع بعض الأعضاء عن زيدان، معتبرين أن الإعلان عن الهبة كان ضرورياً لتجاوز عراقيل بيروقراطية، ولا سيما أن تقديمها وفقاً للآلية القانونية قد يُعرّضها للتأخير بسبب تدخل بعض الموظفين المقرّبين من أحد المتعهدين المتعاقدين مع البلدية، شدد الأعضاء المعترضون على أنهم لا يرفضون الهبة بحد ذاتها، بل يرفضون أسلوب إدارتها.
ولفت هؤلاء إلى أن الهبة، رغم أهميتها، لا تكفي وحدها لمعالجة المشكلة، ما يقتضي إطلاق مناقصات رسمية وإعداد دفاتر شروط لاستدراج عروض من شركات متخصصة، وفقاً لآلية شفافة ومبالغ عادلة.
وعاد التوتر مجدداً بين أعضاء المجلس البلدي عبر مجموعتهم الخاصة على تطبيق «واتساب»، بعد الإعلان عن هبة جديدة مخصصة لصيانة بلاط البازلت في شارع الجميزة وأحد الشوارع المتفرعة من منطقة بلس، من دون عرض الموضوع على المجلس البلدي.
وقد أثار هذا الأمر استياء عدد من الأعضاء المسلمين الذين اتهموا الأعضاء المسيحيين بتعطيل أي هبة موجّهة إلى أحياء «بيروت الثانية» بحجة غياب المسار القانوني وعدم موافقة المجلس عليها، بينما يغضّون النظر عن الآلية ذاتها حين يتعلق الأمر بمناطق «بيروت الأولى». وطالب هؤلاء بتوسيع نطاق الهبة لتشمل أحياءً أخرى مثل بربور والحمرا تحقيقاً للعدالة في التوزيع!