جو رحال (لبنان الكبير)
في لحظة مفصلية من تاريخ لبنان الحديث، يكتسب المسار التحضيري لمؤتمر دعم الجيش اللبناني في باريس أهميةً تتجاوز البعد الدبلوماسي، لتصل إلى جوهر معركة الدولة من أجل تثبيت سيادتها واستعادة قدرتها على حماية الأرض والمؤسسات. فبين التوتر المستمر على الحدود الجنوبية، والإنهاك الاقتصادي، والتجاذبات السياسية الداخلية، يبرز الجيش اللبناني مجددًا كآخر ركائز الاستقرار الوطني، وكعنوان جامع لا بديل عنه.
المبادرة الفرنسية، المدعومة أميركيًا وسعوديًا، تنطلق من قناعة باتت راسخة لدى العواصم المعنية: لا يمكن للبنان أن يدخل مرحلة التعافي ولا أن يحظى بأي مسار إعادة إعمار جدي، ما لم تُدعَّم المؤسسة العسكرية وتُمنَح القدرة الكاملة على بسط سلطة الدولة. ومن هنا، لا يُقرأ الاجتماع التحضيري في باريس كمحطة تقنية فحسب، بل كجزء من مسار سياسي–أمني متكامل، يمهّد لعقد مؤتمر دولي أوسع مطلع العام المقبل، يهدف إلى نقل دعم الجيش من مستوى المساعدات الظرفية إلى شراكة مؤسسية طويلة الأمد.
وفي السياق نفسه، أكدت مصادر خاصة أن التحضيرات جارية لزيارة قائد الجيش، العماد رودولف هيكل، إلى واشنطن، ضمن المسار ذاته واستكمالًا للزخم الذي يرافق المؤتمر المرتقب. وتأتي هذه الزيارة في إطار تنسيق دولي متقدّم بين العواصم الأساسية الداعمة للبنان، بما يعكس توجّهًا واضحًا نحو توحيد مقاربة دعم الجيش، وربط المسار الفرنسي بالمسار الأميركي، بما يرسّخ موقع المؤسسة العسكرية كحجر أساس في أي مقاربة أمنية أو سياسية للمرحلة المقبلة.
النقاش المطروح في باريس لا يقوم على شعارات عامة، بل على مقاربة عملية دقيقة تشمل تعزيز قدرات المراقبة البرية والجوية، ودعم الانتشار على الحدود وفي الجنوب، وتطوير الإمكانات اللوجستية والتقنية، وتأمين استدامة مالية تحمي تماسك الجيش في ظل الانهيار الاقتصادي الخانق. وفي هذا الإطار، يبرز توجّه دولي لربط أي دعم بآليات متابعة واضحة ومؤشرات أداء قابلة للقياس، بما يضمن فعالية المساعدات وحسن استخدامها، ويمنع تكرار تجارب سابقة أُهدرت فيها الفرص بسبب غياب الحوكمة.
غير أن البعد التقني لا ينفصل عن البعد السياسي. فالدول المعنية ترى في تمكين الجيش المدخل الواقعي لمعالجة الإشكاليات السيادية، وفي مقدّمها مسألة السلاح غير الشرعي، من دون الانزلاق إلى صدام داخلي. لذلك، يُنظر إلى المؤسسة العسكرية بوصفها الجهة الوحيدة القادرة على تنفيذ مهام سيادية حساسة، شرط توافر الغطاء السياسي والقرار الوطني الجامع. من هنا، يتحوّل مؤتمر باريس إلى اختبار حقيقي: اختبار لجدية المجتمع الدولي في دعم الدولة اللبنانية، واختبار لإرادة هذه الدولة في الإمساك بزمام قرارها.
ويكتسب هذا المؤتمر بعدًا إضافيًا في ظل النقاشات الدولية حول مستقبل الاستقرار في الجنوب، ودور القوات الدولية، وإمكان تعزيز دور الجيش اللبناني تدريجيًا في إدارة الأمن الحدودي. فالدعم العسكري لا يُفصل عن المسار السياسي ولا عن آفاق إعادة الإعمار، إذ بات واضحًا أن أي استثمار دولي في لبنان سيبقى هشًا ما لم يستند إلى أرضية أمنية صلبة ومؤسسات قادرة.
خلاصة القول، إن مؤتمر دعم الجيش اللبناني في باريس ليس محطة عابرة في روزنامة الاجتماعات الدولية، بل مفصل سيادي حاسم. فإما أن يشكّل نقطة تحوّل تضع الجيش في موقعه الطبيعي كحامٍ للدولة وضامنٍ للاستقرار، وإما أن يُضاف إلى سلسلة فرص ضائعة دفع لبنان ثمنها غاليًا. بين هذين الخيارين، يبقى الجيش اللبناني الرهان الأخير لدولة تبحث عن إنقاذ نفسها قبل فوات الأوان.