ابتسام عازم/العربي الجديد
يمضي الرئيس الأميركي دونالد ترامب في إثارة الخوف والقلق لدى الأجانب في البلاد. فقد ظهر، منذ تسلّمه مهامه في إطار ولايته الرئاسية الثانية، مصرّاً على ضبط الوجود الأجنبي في الولايات المتحدة الأميركية ومكافحة الهجرة.
منذ عودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في 20 يناير/ كانون الثاني 2025، صار القلق رفيق كثيرين من المهاجرين، وكذلك من سكان الولايات المتحدة الأميركية الذين تُعَدّ أوضاعهم قانونية. يحصل ذلك على خلفية الأوامر الرئاسية التي راح يصدرها ترامب منذ اليوم الأول لتولّيه الرئاسة، والتي تطاول جوانب مختلفة من حياة هؤلاء، منها ما يتعلّق مباشرة بالهجرة ومنها ما يحكم حرية التعبير وشؤوناً أخرى. إذاً، لا يقتصر القلق على الذين يعيشون في الولايات المتحدة الأميركية بطريقة "غير قانونية" فحسب، بل يشمل الذين يحملون تأشيرات عمل أو دراسة، خصوصاً أولئك المدافعين عن القضية الفلسطينية.
يستقرّ أجانب كثيرون، من عرب وغيرهم، في الولايات المتحدة الأميركية، ويعملون فيها بصورة قانونية في حين يتابعون دراستهم. سحر واحدة من هؤلاء، وهي طالبة دراسات عليا من أصول فلسطينية تعيش في البلاد منذ أكثر من عشر سنوات، شارفت على إنهاء رسالة الدكتوراه في العلوم السياسية حول فلسطين والقانون الدولي. والشابة، التي فضّلت التعريف عن نفسها بمجرّد اسم سحر، تخبر "العربي الجديد" بأنّها تعمل في مجال التدريس في إحدى الجامعات الأميركية، مشيرةً إلى أنّ واحدة من المواد التي تقدّمها لطلابها تتعلّق بالنظام الدولي والكولونيالية وما بعد الكولونيالية.
لا تخفي سحر مخاوفها، "على الرغم من أنّ وضعي قانوني ولديّ تأشيرتَي عمل وإقامة"، بحسب ما تؤكد. وتعزو ذلك إلى "اتهامات باطلة بمعادة السامية قد تُوجَّه ضدّي بسبب تدريسي مواد عن فلسطين وعن إسرائيل بوصفها نظاماً استعمارياً". وتشرح سحر أنّ "ما نشهده في الوقت الراهن هو تعمّد طلاب صهاينة أو يمينيّين تقديم شكاوى ضدّ أساتذتهم لمجرّد تدريسهم مواضيع نقدية عن السياسات الإسرائيلية"، مبيّنةً أنّ "تلك الشكاوى قد تؤدّي إلى وقف الأساتذة عن التدريس أو إخضاعهم لتحقيقات" في مكارثية جديدة تعيشها الولايات المتحدة في زمن الشعبوية اليمينية.
تلفت إلى أنّه "على الرغم من أنّ هذه الشكاوى أو المضايقات ليست جديدة وحدثت في عهد (الرئيس جو) بايدن أيضاً، فإنّه قبل (ولاية) ترامب كانت ثمّة حماية ما، على الأقلّ من الناحية النظرية، خصوصاً في ما يتعلّق بالتأشيرة"، مضيفةً أنّه في السابق "لم نشهد تحريضاً حكومياً مباشراً على أسماء معينة في الحركة الطالبية، أو اختطاف أشخاص في وضح النهار لترحيلهم على الرغم من وجودهم القانوني (على أراضي الولايات المتحدة الأميركية). أمّا اليوم، فجامعات عدّة تخضع للتحقيق بمزاعم مختلفة". وتتابع سحر: "لا يهمّ إن كانت الاتهامات باطلة، فجامعات كثيرة تخضع للمطالب الحكومية (في نهاية المطاف) بسبب تهديدها بوقف الهبات والمنح أو سحبها منها، وقد طاول ذلك جامعات مرموقة وذات نفوذ كبير، مثل جامعة كولومبيا في مدينة نيويورك". وتكمل: "ولعلّ السؤال الذي يطرحه كثيرون يبقى: إذا كانت جامعة مثل كولومبيا خضعت للضغوط الحكومية وتنازلت عن عدد من أساسيات حرية التدريس والاستقلالية، فكيف لي أنا بصفتي فرداً أعزل أن أقف في وجه هذا العملاق الحكومي؟".
تدعم سحر كلامها بالإشارة إلى توقيف هيئة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك الأميركية عدداً من الطلاب الجامعيين الأجانب في البلاد، على الرغم من أنّهم كانوا يعيشون ويعملون بصورة قانونية في الولايات المتحدة الأميركية، من بينهم الشابة التركية روميسا أوزتورك والشاب الفلسطيني محمود خليل. وكانت أوزتورك طالبة دكتوراه وقد نشرت مقال رأي في صحيفة جامعتها، انتقدت فيه سياسات إسرائيل وحرب الإبادة التي تُرتكب في حقّ الفلسطينيين في قطاع غزة. وقد اعتقلتها سلطات الهجرة الأميركية في إدارة ترامب بعد حملة شنّها البيت الأبيض على عدد من رموز الحراك الطالبي المناهض للحرب والإبادة. واحتُجزت الطالبة التركية ستّة أسابيع في مركز للهجرة، قبل أن يُطلَق سراحها بأمر من قاضٍ في محكمة فيدرالية.
من جهته، اعتُقل الفلسطيني محمود خليل، الذي كان يحمل "غرين كارد"، أي إقامة دائمة، علماً أنّ زوجته تحمل الجنسية الأميركية وكانت حاملاً بأوّل طفل لهما وُلد في فترة احتجازه. وقد تصدّرت قضية خليل عناوين وسائل الإعلام، ولا سيّما أنّ إدارة ترامب حاولت ترحيله من دون أيّ تهم ضدّه. استمرّ اعتقاله لأكثر من ثلاثة أشهر، لكنّ السلطات ما زالت تحاول ترحيله من دون أن تقدّم حتى اللحظة أيّ دليل ضده يثبت ارتكابه جرماً ما. يُذكَر أنّ خليل كان من ضمن فريق الطلاب في جامعة كولومبيا بمدينة نيويورك الذي فاوض الجامعة بشأن احتجاجاتهم المناهضة للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، في سياق الحراك الطالبي بالولايات المتحدة الأميركية في العام 2024.
لا تخفي سحر أن هاتين القضيتَين وغيرهما أثارت لديها كثيراً من الخوف والقلق، على الرغم من أنّها لم تأتِ بأيّ فعل غير قانوني، غير أنّها تحاول عدم جذب الانتباه إليها قدر الإمكان في الأشهر الأخيرة التي تسبق نقاشها في الخريف المقبل رسالة الدكتوراه التي تعدّها، وتقرّ بأنّها جمّدت كلّ حساباتها على وسائل التواصل الاجتماعي في هذا الإطار. وتقرّ بأنّها تعيش، في الوقت الراهن، عند أصدقاء لها وليس في سكنها الرسمي المسجّل، كما تتجنّب التنقّل داخل الولايات المتحدة الأميركية بالقطار أو الطيارة (لأن التذاكر تُحجَز بالاسم). يُذكر أنّ الشرطة المعنية بالهجرة عمدت إلى توقيف، في أكثر من مناسبة، أشخاص في المطارات أو خارج المحاكم أو بعد إنهائهم مواعيد رسمية لدى هيئة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك.
تشدّد سحر على أنّ "المرعب في الموضوع هو أنّني على الرغم من عدم قيامي بأيّ أمر غير قانوني، فإنّ هذا لم يعد كافياً لتجنّب ترحيلك... يكفي أن تكون معارضاً للإبادة (في قطاع غزة) وتدرّس عنها أو أن يتقدّم أحدهم بشكوى ضدّك من دون أي دليل ليصير كلّ وجودك في الولايات المتحدة الأميركية على المحكّ". وتردف: "لم أعد أرغب في البقاء هنا، لكن كلّ ما أريده هو أن أناقش رسالة الدكتوراه وأتخرّج، ثمّ أترك البلاد مباشرة".
بدوره، يتحدّث محمود خليل لـ"العربي الجديد" عن الخوف والقلق اللذَين تحاول إدارة ترامب نشرهما بين معارضي سياساتها؛ سواء أكانت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة أم سياسات الهجرة أو غيرها. ويرى خليل أنّ "الإدارة الأميركية الحالية تسعى إلى خلق بيئة يكون الصمت والخوف فيها سيّدَي الموقف، سواء بين أبناء الجاليتَين العربية والمسلمة أو حتى في مجتمعات تعارض السياسات الحكومية".
يضيف أنّه "كلما زاد حديثنا عن تلك السياسات، زادت الملاحقات والمحاولات التي من شأنها أن تجعلنا نشعر بأنّنا تحت المراقبة وأنّنا هدف سهل. يريدون تكميم الأفواه ووقف النقاش حول قضايا مهمّة، مثل حقوق الفلسطينيين وغيرها. ومن خلال استهدافي واستهداف غيري، وكذلك إثارة الرعب والاتهامات، فإنّ الحكومة تحاول الإثبات أنّها مستعدّة لاتخاذ أيّ خطوات من أجل تكميم الأفواه، وأنّ الولايات المتحدة الأميركية مكان لا يُسمَح فيه للأفراد بالتعبير عن آرائهم بحرية عندما يتعلّق الأمر بفلسطين. وهذا أمر يؤدّي إلى حالة كبيرة من الخوف".
يلفت خليل إلى أنّه في الوقت ذاته، "تُسجَّل حالة معارضة كبيرة لتلك السياسات، وما تقوم به إدارة ترامب دليل واضح على أنّ قضية فلسطين أصبحت قضية رئيسية لدى الرأي العام الأميركي، ولذلك جنّ جنونهم"، ويؤكّد أنّ "ما يقومون به هو محاولة لاستهداف الحركة ووقفها، لكنّنا مصرّون على النضال والاستمرار"، مشيراً إلى أنّ "ثمّة بيئة داعمة وكبيرة لحقوق الفلسطينيين في الوقت الراهن". وإذ يلفت خليل إلى أنّ حكومة ترامب والمؤسسات الرسمية الأخرى هي "آخر من ينصت إلى رأي الشعب"، يقول إنّ "ما لاحظناه مثلاً في فوز زهران ممداني، بوصفه مرشّحاً عن الحزب الديمقراطي لعمدة نيويورك، دليل واضح على أنّ محاولات القمع لم تنجح ولن تنجح على المدى الطويل".
كانت دوائر سياسية عديدة في الولايات المتحدة الأميركية قد ارتبكت بعد فوز ممداني في الانتخابات التمهيدية وهو مرشّح الحزب الديمقراطي لمنصب عمدة نيويورك في يونيو/ حزيران الماضي، ليس فقط في أوساط الجمهوريين إنّما أيضاً داخل حزبه. وكان ممداني قد أصرّ، خلال حملته، على مواقفه المعادية للسياسات الإسرائيلية وللحرب على قطاع غزة، وبالتالي لم يعلن بالتأكيد "ولاءه" لإسرائيل وسياساتها مثلما فعل المرشّحون الباقون. وكلّ هذا في أهمّ وأكبر مدينة أميركية تضمّ نسبة كبيرة من اليهود الأميركيين. واللافت في كلّ هذا هو الشرخ بين الجيل القديم، اليهود الأميركيين والديمقراطيين عموماً، وجيل الشباب الذي لم يعد يرى أيّ جدوى في دعم حكومة أجنبية مثل إسرائيل بطريقة عمياء، خصوصاً في ما يخصّ حرب الإبادة التي ترتكبها.
لكنّ سياسات التخويف لم تعد تقتصر على مناهضي الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة أو فلسطين عموماً. وكان مجلس العلاقات الأميركية الإسلامية (كير)، أكبر منظمة حقوق مدنية ومناصرة للمسلمين في الولايات المتحدة الأميركية، قد أصدر تحذيراً احترازياً للأميركيين من أصول فلسطينية في ظلّ تقارير تفيد باحتجاز أفراد منهم أو خضوعهم لـ"استجوابات متطفّلة من قِبل عملاء فدراليين عند الحدود الأميركية".
شجّع المدير التنفيذي للمنظمة إدوارد أحمد ميتشل، في منشور، "أفراد الجالية، خصوصاً المسلمين الأميركيين من أصل فلسطيني، الذين يدافعون عن حقوق الفلسطينيين، على مراجعة هذا التحذير لضمان قدرتهم على الاستجابة بطريقة صحيحة لأيّ مضايقات تمييزية أثناء السفر عبر المطارات". أضاف أنّ "من الضروري البقاء على اطّلاع على حقوقك ومعرفتها، والإبلاغ عن أيّ انتهاك يطاولها". وكانت "كير" واحدة من بين عدد من المنظمات الأميركية غير الحكومية التي أصدرت تحذيرات لمناصري القضية الفلسطينية من أصول أميركية بأخذ الحيطة عند العودة إلى الولايات المتحدة بعد سفر إلى خارج البلاد، والتأكد من أنّهم يدركون حقوقهم بصفتهم مواطنين أميركيين وما يُسمح أو لا يُسمح لشرطة الحدود بالسؤال عنه أو التفتيش عنه أو غير ذلك.
وفي تصريحات أخيرة له، كشف وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو أنّ إدارة ترامب تدرس تصنيف جماعة الإخوان المسلمين منظمةً إرهابيةً، لكنّ اللافت كان تلميحه إلى أنّ الإدارة الأميركية تعمل لحظر أكبر منظمة أميركية غير ربحية مسلمة هي "كير" آنفة الذكر. وجاءت تصريحات روبيو في سياق ردّه على أسئلة صحافية حول الموضوع. تجدر الإشارة إلى أنّ سياسات ترامب الأخيرة تأخد الولايات المتحدة الأميركية إلى مناخ تتصاعد فيه الفاشية والعنصرية، تضيق فيه مساحات حرية التعبير، فيما تدفع الإجراءات والقوانين التعسفية إلى التساؤل عن مستقبل الديمقراطية.