سعيد محمد/ جريدة الأخبار
يتولى ويليام فان فاغنين المهمة التي نكص عنها المؤرخون العرب ليروي القصة الحقيقية للحرب الأميركية والإسرائيلية على الدولة السوريّة في المدة بين عامَي 2011 و 2016 التي أدت تاليًا إلى استيلاء واجهة للإخوان المسلمين على دمشق في العام 2024 بالتعاون مع الأوروبيين والقوى الإقليمية، بما في ذلك قطر وتركيا والسعودية. سادت غيوم التضليل الكثيف للبروباغندا الغربية كل تغطية تقريبًا للحدث السوري منذ عام 2011، وسقطت الحقيقة مع استشهاد أولى ضحايا الحرب الأميركية ــ الإسرائيلية على الدولة السورية، فيما عجزت قدرات الإعلام المحلي حينها عن التصدي لسيل جارف من الأكاذيب الممنهجة والأخبار الملفقة، ومالت غالبية المثقفين والمؤرخين في العالم العربي إلى حيث هوى أصحاب المال والجاه في الأنظمة/ الأدوات الشريكة في الحرب.
وثيقة إدانة تاريخية
يأتي كتاب «فوضى خلاقة: خلفيات حرب الاستخبارات الأميركية السرية لإسقاط الدولة السوريّة» (Creative Chaos: Inside the CIA›s Covert War to Topple the Syrian Government ــــ «معهد ليبريتيريان» ـ 2025) للصحافي ويليام فان واغينن فاتحة سجل تأسيسي مضاد لكل ذلك.
هذا ليس مجرد تأريخ للحدث، بقدر ما هو تحقيق جنائي دقيق، وعمل تشريحي عميق لأكبر عملية هندسة جيوسياسية شهدها القرن الحادي والعشرون. عملية لم تكن تهدف إلى «دعم الديموقراطية» كما زُعم، بل إلى التفكيك المنهجي لواحدة من آخر قلاع القومية العربية العلمانية والمناهضة للإمبريالية والصهيونية في المنطقة.
لا يمكن قراءة هذا الكتاب إلا كوثيقة إدانة تاريخية، وتأكيد مفهرس لما كان رآه سوريون كثيرون على الأرض: خدعة أنّ ما حدث في الشام «ثورة شعبية عفوية» فيما هي مؤامرة خارجية مكتملة الأركان، استُخدمت فيها أدوات محلية وإقليمية لتنفيذ أجندة تدميرية.
ينجح فان واغينن، ببراعة الباحث المدقق، في تفكيك السردية الغربيّة عن «حرب أهلية في سوريا» قطعةً قطعة، ليكشف عن الهيكل الحقيقي للمؤامرة: عدوان أميركي إسرائيلي هجين متعدد الطبقات تديره أساسًا «وكالة الاستخبارات الأميركيّة» والموساد الإسرائيلي كنموذج متقدم من حرب الجهاد الإسلامي، وفقًا لنظرية المنظر اليهودي ومستشار الأمن القومي الأميركي زبغنيو بريجنسكي التي تم تجربتها سابقًا بنجاح فائق في أفغانستان لإسقاط الدولة الاشتراكية فيها وتركها نهبًا للتطرف الطائفي والتخلّف الاجتماعي.
أسطورة «الثورة العفوية»: صناعة التمرّد في مختبرات واشنطن
يبدأ الكتاب بضرب الأسس التي قامت عليها أسطورة «الربيع العربي» في نسختها السورية. لا يترك فان واغينن مجالًا للشك في أنّ خطط تغيير النظام في دمشق كانت موضوعة على طاولات المحافظين الجدد في واشنطن قبل عقد كامل من اندلاع الأحداث.
يعود بنا إلى وثائق مثل «الانفصال النظيف» (A Clean Break) التي قُدمت لنتنياهو عام 1996، ومشروع «القرن الأميركي الجديد»، ليُظهر أن سوريا كانت على قائمة الأهداف كحجر زاوية في «محور المقاومة» الذي يربط طهران ببيروت عبر دمشق. الأمر الأكثر إثارة للقلق، الذي يوثقه الكتاب بدقة، هو عملية «الاستزراع المصطنع» (Astroturfing) للثورة.
يكشف فان واغينن عن شبكة التمويل التي ضختها وزارة الخارجية الأميركية ومنظمات مثل «الصندوق الوطني للديموقراطية» (يُعدّ الواجهة المدنية لـ «وكالة الاستخبارات المركزية» الأميركية) في جيوب «نشطاء» ومنظمات «حقوقية».
يحلل دور مراكز مثل «كانفاس» (CANVAS) الصربي، الذي درّب النشطاء على تكتيكات «العصيان المدني» المصمّمة لإثارة الفوضى واستدراج رد فعل عنيف من الدولة، لخلق المبرر (الأخلاقي) للتدخل. لم تكن الشعارات التي رُفعت في البداية نابعةً من رحم المعاناة الشعبية، بل كانت في غالب من الأحيان نتاج ورش عمل ممولة بعناية، تهدف إلى خلق «الشرارة» التي ستشعل الحريق.
من هذا المنظور، فإن الدولة السورية، بكل ما يمكن أن يؤخذ عليها من عيوب بنيوية أو ممارسات قمعية، لم تكن تواجه معارضة سياسية محلية تسعى إلى الإصلاح، بل كانت تواجه جيلًا جديدًا من الحرب الهجينة التي تتقن استخدام الإعلام الرقمي والمنظمات غير الحكومية كأحصنة طروادة لتفكيك النسيج الاجتماعي والسياسي من الداخل.
تسليح الأصولية: السلفية أداة في يد الإمبريالية
بعد فضحه الخداع السياسي الغربي لإطلاق الحرب، يغوص القسم الثاني من «فوضى خلاقة» في المستنقع المالي واللوجستي الذي غذّى الوحش السلفي. وهنا تكمن القيمة الأكبر لعمل فان واغينن، فهو يوثق، بشكل لا يقبل الجدل، كيف أنّ «الثورة» المزعومة لم تُسرق منذ يومها الأول كما يزعم البعض، بل كانت أدواتها العسكرية السلفية ــ الجهادية مهيأة بشكل تام منذ البداية.
يكشف الكتاب بالتفصيل عن الدور المحوري الذي لعبته القوى الرجعية الإقليمية، وتحديدًا السعودية وقطر وتركيا، كأذرع تنفيذية للمشروع الأميركي. شخصية بندر بن سلطان تظهر كمهندس رئيسي لعملية تسليح الجماعات وتوجيهها التي سترفع راية «القاعدة» لاحقًا.
يقتفي فان واغينن أثر ما يسمّيه «خط الجرذان» (rat line) لنقل الأسلحة من ليبيا بعد سقوط القذافي، ودور معسكرات التدريب في الأردن وتركيا، وكيف تم إطلاق سراح جهاديين متمرسين من معسكرات الاعتقال الأميركية في العراق مثل «كامب بوكا» ليكونوا قادة للفصائل المسلحة في سوريا.
الأهم من ذلك، ينسف الكتاب فكرة «الجيش السوري الحرّ» ككيان معتدل وعلماني، ويثبت بالأدلة أنّ هذا «الجيش» لم يكن إلا علامة تجارية، قناعًا دعائيًا صُنع بعناية لتسويق الحرب للرأي العام الغربي. أما على الأرض، فكانت الكتائب ذات التوجه السلفي الواضح، مثل «أحرار الشام» ولاحقًا «جبهة النصرة»، هي التي تشكل العمود الفقري للقوة العسكرية، تتلقى السلاح والتمويل وتفرض أجندتها الظلامية.
لقد كانت هذه هي «الفوضى الخلاقة» في أوج تجليها: استخدام أكثر القوى رجعية وتخلفًا لتدمير دولة علمانية متعددة الطوائف. إنها إعادة إنتاج للسيناريو الأفغاني، حيث «المجاهدون» الذين صنعتهم «وكالة الاستخبارات المركزية» لمحاربة السوفيات أداة لتدمير مجتمعات بأكملها.
ذروة الخداع: «كيماوي» الغوطة
يصل الكتاب إلى ذروته في تحليله لهجوم الغوطة الكيميائي في آب (أغسطس) 2013. يقدم فان واغينن تحقيقًا دقيقًا ومقنعًا يفكك فيه الرواية التي تبنتها واشنطن ولندن وباريس على عجل، وكادت أن تؤدي إلى عدوان عسكري مباشر على دمشق.
بالاعتماد على تحليل الخبراء، والتقارير الاستخباراتية المسربة، وتناقضات الرواية الغربيّة، يطرح الكتاب بقوة فرضية أنّ الهجوم كان عملية «خداع إستراتيجي» (False Flag) نفذتها جماعة «لواء الإسلام» بقيادة زهران علوش، وبدعم لوجستي واستخباراتي سعودي، بهدف توريط الدولة السورية وتجاوز «الخط الأحمر» الذي وضعه الرئيس الأميركي باراك أوباما، وبالتالي جرّ الولايات المتحدة إلى الحرب.
هذه النقطة حاسمة، لأنها تكشف عن المدى الذي كانت القوى الخارجية وعملاؤها المحليون مستعدون للذهاب إليه. إن استخدام السلاح الكيميائي ضد المدنيين، ثم تصوير الضحايا في فيديوهات مروعة ومعدة سلفًا، وتوزيعها على الإعلام العالمي لخلق صدمة عاطفية تبرر العدوان، دليل على انعدام كامل لأي وازع أخلاقي لمن شنوا هذه الحرب القذرة.
لقد كانت مجزرة الغوطة هي اللحظة التي سقط فيها قناع «الإنسانية» بشكل كامل، وكشفت عن وجه العدوان الحقيقي: حرب بالوكالة لا ترحم، تستخدم فيها كل الوسائل، بما في ذلك التضحية بآلاف الأبرياء، لتحقيق الأهداف الجيوسياسية للإمبريالية الغربيّة وذراعها الصهيونية العالمية.
كتاب «فوضى خلاقة» ليس مجرد توثيق أكاديمي، بل سلاح في معركة الذاكرة. وينبغي أن يكون أول سلسلة من الأعمال التي تلحظ هذه المرحلة وتنقّح تاريخها مما علق به من عبث استخباراتي. قد يأخذ بعضهم على الكتاب، ربما من زاوية نقدية، أنه يركز على المؤامرة الخارجية أكثر من تحليله للتناقضات الطبقية الداخلية في المجتمع السوري أو طبيعة النظام الاقتصادية التي خلقت بعض الأرضيات للاستياء الشعبي.
لكن هذا نقد ثانوي أمام الإنجاز الهائل الذي حققه الكتاب في توثيق العدوان الخارجي. إن النص الذي وضعه ويليام فان واغينن قراءة ضرورية لكل من يريد أن يفهم حقيقة ما حدث في سوريا، ولكل من يسعى إلى فهم آليات عمل الإمبريالية في القرن الحادي والعشرين، ويثبت أنّ «الحقيقة هي ابنة الزمن، لا السلطة».
«فوضى خلاقة» خطوة جبارة في سبيل انبعاث الحقيقة، وانتصارها على سردية الزيف والخداع التي أُريد لها أن تسود. إنه عمل يبرّئ ساحة الدولة السورية من تهمة شنّ الحرب على شعبها، ويضع المسؤولية حيث يجب أن تكون: على عاتق تحالف إمبريالي ــ رجعي قرر أن تدمير سوريا وذبح شعبها هو ثمن بخس لتحقيق مصالحه.