محمد باقر ياسين / خاص موقع أوراق
منذ عقود، شكّلت "المونة" جزءًا أصيلًا من الحياة الريفية اللبنانية، حيث تحضّر العائلات أصنافها المختلفة في الصيف والخريف استعدادًا لشتاء طويل وقاسٍ. لكن هذا العام، على الرغم من الأوضاع الاقتصادية الخانقة والعدوان الإسرائيلي الذي ألحق أضرارًا واسعة بالقرى والأراضي الزراعية، بقيت المونة فعلًا من أفعال صمود أبناء الجنوب والبقاع، إذ أنتجها الأهالي فوق الركام لتبقى رمزًا للاستمرار والتجذّر.
تعريف "المونة" وأنواعها
"المونة"- باللهجة اللبنانية- هي الأطعمة التي تعدّها نساء القرى تحديدًا، حيث تنتجها الأرض وتسهم هواء الأرياف خاصة في نمائها، خلال فصلي الصيف والخريف، فتحوّلها النسوة إلى أطعمة مختلفة، تستعين بها العائلات خلال المواسم الباردة، خصوصًا في القرى التي يعتاد أهلها البقاء في المنازل، حيث تغطي الثلوج معظم فصل الشتاء.
تشمل هذه الأطعمة: مجففات الفاكهة والمربيات واللبنة "المكعزلة" والزعتر الممزوج بالسماق والسمسم والكشك والمكدوس والعصائر والخل..
تمثل هذه المنتجات جزءًا من التراث الغذائي والثقافي في لبنان، على اختلاف مناطقه وأريافه في الشمال والجنوب والبقاع.
تراجع متفاوت في الإنتاج
أوضح مصدر في إعلام "مؤسسة جهاد البناء" أنّ كمية إنتاج المونة شهدت تراجعًا ملحوظًا هذا العام بفعل الاعتداءات الإسرائيلية، حيث اختلفت النسب بين القرى والبلدات وفقًا لحجم الأضرار التي لحقت بالأراضي الزراعية والمباني السكنية. وأضاف بأنّ الإنتاج في القرى الحدودية "شبه معدوم"، فيما يرتفع تدريجيًا في القرى الأبعد.
كما أشار المصدر نفسه إلى أنّ حركة المزارعين تقيّدها تهديدات الطائرات المسيرّة واعتداءاتها المتكررة، ما انعكس سلبًا على حجم الإنتاج المعدّ للبيع. ومع ذلك؛ أكد أنّ معظم العائلات أنجزت مؤونتها الخاصة للاستهلاك الشخصي، حتى في أصعب الظروف، لافتًا إلى أنّ: "الأهالي في الجنوب والبقاع يصنعون مكدوسهم وكشكهم وزعترهم، حتى بجوار منازلهم المهدمة، فالمونة بالنسبة إليهم من المسلّمات، ولا يستغنون عنها".
ثقافة حياة وهوية متوارثة
بحسب "إعلام جهاد البناء"، لا تُعد المونة مجرّد طعام أو شراب، هي "ثقافة حياة ومعلم من معالم المناطق الحضارية، بما تحمله من إرث ثقافي وشعبي وعادات وتقاليد"، إذ ارتبطت أسماء القرى والأرياف بأصنافها المميزة؛ مثل الكشك البقاعي أو الزعتر الجنوبي.
كما أشار المصدر إلى أنّ هذه الثقافة: "توارثتها الأجيال من الأجداد إلى الأبناء والأحفاد، وستبقى مستمرة مهما اشتدت الظروف الاقتصادية والسياسية والعسكرية".
المعارض الزراعية في لبنان
هناك العديد من المعارض التي تقام على الأراضي اللبنانية لتصريف الإنتاج الزراعي، ومن أهمها "معرض مهرجان أيام بيروت" الذي تقيمه بلدية بيروت برعاية رئيسها. وهذا العام سيقام المعرض من ٤ أيلول حتى الأحد ٧ أيلول من الساعة ٣ عصرًا ولغاية ١٠ مساءً، وذلك في حديقة كرم العريس – الباشورى. وسيشارك فيه منتجون من البقاع والجنوب وبيروت وسائر المناطق اللبنانية.
معرض "أرضي"… منصة لدعم المنتجين
كذلك أشار إعلام جهاد البناء إلى أنّ المنتجين من الجنوب والبقاع سيشاركون بفعالية في معرض "أرضي"، والذي يُفتتح في 31 تشرين الأول/أكتوبر في الضاحية الجنوبية لبيروت – منطقة الجاموس داخل باحة عاشوراء.
يُتوقع أن يستقطب المعرض نحو 11 ألف زائر يوميًا، ويشكّل حلقة وصل مباشرة بين المنتجين والمستهلكين، بعيدًا عن الوسطاء، ما يعزز فرص التصريف ويتيح علاقة مستدامة بين الطرفين.
التدريب والتطوير لضمان الاستمرارية
تقوم جهاد البناء بعدة نشاطات ودورات لتسهم في تطوير إنتاج المونة؛ وذلك من خلال:
1. دورات تدريبية لتطوير صناعة المونة وفقًا لأسس علمية وصحية.
2. تحسين جودة الإنتاج ومساعدة الأهالي في الترويج لها عبر المعارض والمنصات الإلكترونية.
3. إرشاد زراعي يقوم به مهندسون متخصصون لتقديم النصائح الفنية.
4. دورات تعلّم أساليب حفظ المونة وضمان استمراريتها لسنوات.
مبادرة "اشتري جنوبي"
من جهته، قال المهندس الزراعي في اتحاد بلديات جبل عامل حسين جابر إنّ مبادرة "اشتري جنوبي" قد أطلقت لتكون خطوة تشجيعية لإعادة تشغيل الدورة الاقتصادية، في القرى الجنوبية المتضررة من العدوان الصهيوني.
كما أوضح أنّ المبادرة تهدف إلى "تحفيز المواطنين على شراء المونة البلدية، ودعم المزارعين الذين عادوا إلى أرضهم وزرعوها على الرغم من الظروف الأمنية والعسكرية الصعبة"، لافتًا إلى أنّها تستند إلى معرفة المستهلكين بجودة هذه المنتجات ومصداقية المنتجين.
وأشار جابر إلى أنّ الاتحاد ينسّق مع "مؤسسة جهاد البناء" في تنظيم أسماء المنتجين وأنواع المنتجات المشاركة في المعارض، فضلًا عن تقديم دورات إرشادية متكاملة للحفاظ على جودة الإنتاج وربطه بالأسواق. وأضاف: "ما يميز المونة، في هذا العام، أنّها تحمل قيمة معنوية عالية، إذ عاد الجنوبي ليأكل من أرضه التي ارتوت بدماء أبنائه".
في المحصلة، وعلى الرغم من التحديات المعيشية والاعتداءات الأمنية، يواصل المزارعون والمنتجون في الجنوب والبقاع صناعة المونة، كونها إرثًا ثقافيَا وحضاريًا لا ينطفئ.. إذ إنها أكثر من مؤونة غذائية، هي فعل صمود يعكس تشبّث اللبنانيين بأرضهم وهويتهم، وإصرارهم على نقل هذه العادات الاجتماعية والتنموية من جيل إلى جيل؛ مهما قست الظروف.