جاد الحاج (لبنان 24)
يعيش الحراك المسيحيى في لبنان لحظة ضياع سياسي غير مسبوقة، إذ يجد نفسه محاصرًا بين خيارات متناقضة لا تتيح له رفاهية الاصطفاف الواضح. فالقوى المسيحية التي طالما قدّمت نفسها رأس حربة في المواجهة مع "حزب الله"، تبدو اليوم عاجزة عن اتّخاذ موقف حاسم بين رئيس الحكومة نواف سلام ورئيس الجمهورية جوزاف عون، بعدما اشتعل الخلاف بينهما على خلفية مشهد صخرة الروشة الذي كشف عمق الشرخ القائم في مؤسسات الدولة.
وعلى خلفية إضاءة صخرة الروشة بصور قادة من حزب الله، انفجر الخلاف بين الرئيسين نواف سلام وجوزاف عون، إذ قرأ سلام في الخطوة تحدّيًا مباشرًا استوجب تصعيدًا سياسيًا وإجراءات صارمة، في حين فضّل عون اعتماد مقاربة مختلفة، شدّد فيها على أولوية السلم الأهلي وعلى تحصين دور المؤسسات الأمنية من أي استهداف. هذا التباين لم يكن تفصيلًا عابرًا، بل أظهر بوضوح المسافة بين نهجَين متعارضَين: نهج يميل إلى المواجهة المفتوحة مع "الحزب"، ونهج آخر يسعى إلى إبقاء التوازن الداخلي قائمًا ولو على حساب رفع السقف السياسي. وبين هذين الخيارين، وجدت القوى المسيحية نفسها في قلب مأزق حقيقي، فهي تدرك أن الالتحاق بخطاب سلام يعني عمليًا الدخول في مواجهة مع الرئاسة وما تمثّله مسيحيًا، في ما الانحياز إلى موقف عون يضعها في خانة المتراخية عن منطقها التقليدي المتشدد والقائم على التصعيد.
هذا التباين سرعان ما انعكس على تموضع القوى المسيحية، التي باتت مضطرة إلى الموازنة بين حسابات متناقضة لا يمكن جمعها في خطاب واحد. فمن جهة، لا تستطيع التنصّل من سلام، إذ إن خطابه التصعيدي تجاه سلاح حزب الله يعبّر عن المزاج الذي غذّته هذه القوى في خطابها السياسي والإعلامي لسنوات، وأي تراجع عنه سيُفهم كتنازل أو ضعف في لحظة مواجهة. ومن جهة أخرى، لا يمكنها أن تذهب معه حتّى النهاية، لأن ذلك يعني الدخول في مواجهة مباشرة مع رئيس الجمهورية، بما يمثّله من غطاء مسيحيى ما زال إلى اليوم يشكّل عامل توازن لا يُستهان به. وما بين هذين النهجين، انكشف مأزق القوى المسيحية على حقيقته: فهي لا تملك القدرة على الذهاب مع سلام في معركته المفتوحة، ولا تملك الجرأة على مجاراة الرئيس في خطابه الحذر، فبدا حضورها السياسي معلّقًا بين خطاب لا تستطيع احتضانه بالكامل وخيار لا تستطيع التبرؤ منه علنًا.
في الواقع، لا تزال القوى المسيحية ترفع خطابًا سياسيًا متشدّدًا لا لبس فيه، وتقدّم نفسها في موقع المواجهة مع "حزب الله"، غير أنّ المعضلة التي تواجهها اليوم تكمن في كيفية إدارة هذا الخطاب على المستوى الإعلامي، ربطًا بالتباينات المتفجّرة بين الرئيسين عون وسلام، والتي وضعتها في موقع لا تُحسَد عليه. فسلام يذهب إلى أقصى الحدود في رفع السقف ومواجهة "الحزب" بلا هوادة، في ما يقدّم عون مقاربة مختلفة تُحاول التمسّك بهامش الاستقرار الداخلي. وبالتالي، فإنّ القوى المسيحية قد تجد نفسها، مع تفاقم الخلاف بين الطرفين، بلا بوصلة واضحة، تتأرجح بين خطاب متطرّف يرفع السقف وعجز عن تحويله إلى فعل سياسي متماسك، في ما تظلّ مواقفها محكومة بالحرج، وهو ما قد ينعكس مباشرة على أدائها الإعلامي والسياسي.
في المحصّلة، يتبيّن أنّ أزمة الحراك المسيحيى اليوم ليست في الموقف من حزب الله وحده، ولا في العلاقة مع الرئاسة حصرًا، بل في العجز عن صياغة خط إستراتيجي واضح يواكب التحوّلات الكبرى. وبين اندفاعة سلام وحسابات الرئيس عون، تعيش القوى المسيحية حالة ضياع عميق ستدفع ثمنها من رصيدها السياسي والشعبي، ما لم تتمكّن من حسم خيارها وتحديد موقعها بوضوح في هذه المواجهة المفتوحة.