عبد الحليم فضل الله (الأخبار)
يُعدّ التدمير في عقيدة الاحتلال "الإسرائيلي" جزءًا لا يتجزأ من الحرب، لا مجرّد نتيجة لها. الأمثلة كثيرة. ففي عام 1948 دمّرت عصابات الهاغاناه عددًا من القرى الفلسطينيّة بناءً على خطة "دالت" لفتح ممرّ ما بين الساحل والقدس (من أصل 531 قرية على امتداد فلسطين). وفي عام 1967 سُوّيت حارة المغاربة في القدس بالأرض خلال ثلاثة أيام في مجزرة معماريّة وأثريّة لا لسبب إلّا لأنها تعوّق المخطّطات لتغيير وجه القدس والمسجد الأقصى.
وقامت عقيدة الضاحية في عام 2006 على الإبادة الرمزيّة للمكان. ويُراد من عقيدة غزّة في الحرب الحاليّة، إبادة المكان وساكنيه (بالقتل أو التهجير) للقبض على الجغرافيا وحرف مجرى التاريخ عن مساره.
وليس بعيدًا من ذلك، اعتاد الاحتلال هدم منازل ذوي المطلوبين والأسرى والشهداء، بوصفه عقوبة فرديّة رادعة وفقًا لمبدأ الهدم وعدم البناء.
وفي العموم كانت فكرة التدمير تدور في أذهان قادة العدوّ وسياسيّيه لرسم الصورة النهائيّة للحرب، نصرًا أو هزيمة، وحسم مساراتها وتشكيل يومها التالي.
هذا يفسّر ارتفاع الضجيج المصاحب لعمليّات إعادة الإعمار وازدياد تعقيداتها، حربًا تلو أخرى. ويدلّ أيضًا على تغير طبيعة الحرب وغموض نتائجها، وعلى الحاجة إلى سَوْق حججٍ وبراهين لإثبات أن الكفة مالت لمصلحة هذا الفريق لا إلى ذاك. فما يدور في "اليوم التالي"، ومنه إعادة الإعمار، لا ينفصل عن اليوم الأخير الذي يقرّر الرابح والخاسر في الحرب، وهذه باتت تكشف عن نتائجها تدريجيًّا وتراكميًّا لا دفعة واحدة.
لقد احتاج العدوّ عامين أو أكثر للتأكّد من أنّ المقاومة هي التي كسبت جولة حرب تموز 2006. ولم يصدق بعض الداخل ذلك إلّا بعدما عجز عن استقطاب دعم خارجي لنزع سلاح الاتّصالات في قرار 5 أيار 2008، واضطرار الحكومة إلى تسهيل إعمار المساكن والبنى التحتيّة المهدّمة رغم وجود نوايا مبيّتة للعرقلة.
ولا ينحصر الجدل بأصل حصول الإعمار أو عدمه، بل يطال كذلك الطريقة التي يجري بها: هل يُوجّه غربًا على أساس هندسة سياسيّة واجتماعيّة جديدة للدول المُصابة بالحرب، أم يُعمل عبره على إعادة المجتمع إلى ما كان عليه وفقًا لتصورات المخطّطين لا السكان، أم يُدار الإعمار وفقًا لإرادة الناس وبالضدِّ من غايات العدوان؟ وهذا ما سنناقشه في نماذج إعادة الإعمار.
النموذج الموجّه غربًا
في هذا النموذج يكون الإعمار استكمالًا للحرب ومحققًا لأهدافها. فيُحاط بقيود سياسيّة ثقيلة تشمل التخطيط والتنفيذ والتمويل، ويقع قراره في يد الخارج. ويتعارض هذا النموذج، الصراعي والبطيء الإيقاع، مع السيادة الوطنيّة، ويترافق غالبًا مع إجراءات عقابيّة تعمّق من أزمة المجتمعات المُراد إعمارها، لإرغامها على التنازل ولإحداث تحوّلات اجتماعيّة وسياسيّة في أوضاعها.
ولا نحتاج إلى جهد كبير للتحقّق من أنّ معظم البلدان التي مرّت بحروب قاسية واحتاجت إلى مساندة للإعمار، كانت هدفًا للعقوبات الأميركيّة والغربيّة ولضروب شتّى من الحصار، تحقيقًا لنتائج الحرب أو استثمارًا في ويلاتها.
وقد نجح ذلك (إلى جانب عوامل أخرى) في تغيير النظام السياسي في سورية، ويُراد له أن يؤثّر في الأوضاع السياسيّة في لبنان وأن يقرّر مصير قطاع غزّة وفلسطين والمنطقة عمومًا. وقبل ذلك دُفع طرفا النزاع في السودان إلى خوض سباق التطبيع مع العدوّ كسبًا للدعم الأميركي والغربي والخليجي، ويُراد تكرار الأمر نفسه في ليبيا وغيرها.
والصيغة المفضّلة لهذا النموذج هي ما يُطلق عليه في الأدبيات ذات الصلة: السلام الليبرالي، الذي يزعم أنّ من وظائف الإعمار منع "عودة التمرّد"، ودمج المجتمعات والدول المتضرّرة بمشاريع اقتصاديّة وسياسيّة كبرى إقليميّة ودوليّة.
هذا النموذج الذي يتبنّى في الظاهر الصفة الليبراليّة، يتماشى في واقع الحال مع السياسات الاقتصادية القومية (بالفهم الأميركي)، وفيها يكون الإعمار جوهر ما يسمّى اليوم التالي للحرب وفصلها الأكثر أهميّة، كما في مسعى إخلاء غزّة من سكانها بعد وقف القتال، وإبطاء إعادة إعمار لبنان.
وتختلط الأبعاد الاقتصادية والأيديولوجية في النموذج الموجّه غربًا West oriented مع ملامحه السياسية. فأحد أركانه هو إبعاد الدولة عن التخطيط المركزي لمشروع الإعمار وتولّي دور أساسي فيها، ودفع الأمور نحو طريقة في الإعمار تتناسب مع تصورات المخطّطين والممولين ومآربهم الخاصّة، لا تصور السكان لمصالحهم وحقوقهم.
ويكفي أن نلقي نظرة على ما سُرّب عن "خطّة عربيّة" لإعمار غزّة (بقيمة 53 مليار دولار أميركي)، وقيل إنّ الزعماء العرب ناقشوها في قمّة الرياض غير الرسميّة، لنكتشف ما تنطوي عليه من تحيّز إلى النظرة الأميركيّة للأشياء.
فالمرحلة الأولى (بقيمة 20 مليار دولار أميركي) المخصّصة للتعافي، تتضمن إزالة الركام وبناء مساكن مؤقتة، في ما تُربط المرحلتان الثانية والثالثة بشروط سياسيّة من بينها ضمان عدم تكرار هجمات مماثلة لهجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
وتُصنِّف الخرائط المسرّبة للخطّة، مناطق غزّة وفقًا لمعايير ظاهرها تقني وعلمي، لكنّها في واقع الحال تتعامل مع مطالب العدوّ بإقامة مناطق عازلة بين القطاع من جهة وأراضي الـ48 المحتلة وسيناء من جهة أخرى، وكذلك فصل المناطق بعضها عن بعض وإعادة نشر السكّان على نحو ملائم للخطط الأمنيّة الموضوعة على طاولة البحث.
ويتعمّد أنصار النموذج الموجّه غربًا تجزئة مشروع إعادة الإعمار إلى أقسام صغيرة لتمكين المقاولين من إدارة العملية برمتها، وهذا يُسمّى رأسمالية المقاولين.
فهؤلاء يتمتعون بمرونة كبيرة ولديهم القدرة على اجتذاب الموارد وتوظيفها وفقًا لبرنامج زمني يمكن بسهولة السيطرة عليه، كما إنهم قادرون على الوصول إلى التمويل المطلوب من مصادر عامة وخاصة بشروط وقيم مناسبة، والأهم من ذلك قدرتهم على ضبط أداء القائمين على عمليات الإعمار عبر الأذرع البيروقراطية الطويلة لقوات الاحتلال والغزو، إذ يمتلك الجيش الأميركي جيوشًا موازية من المتعهدين والمقاولين.
النموذج التقليدي
مبدئيًّا، يتّصف هذا النموذج بأنّه مركزي تديره الدولة بمعزل عن مصادر التمويل الداخليّة والخارجيّة. وأدّى هذا النموذج دورًا ما في "خطة النهوض" في لبنان بعد الحرب الأهليّة، وفي إعمار طرفي الحرب العراقيّة - الإيرانيّة، لكنّه لم يعد حاضرًا في تجارب الإعمار اللاحقة.
وفي العموم تنطلق الدولة في تخطيطها للإعمار من تصوّرها للمصلحة العامة، التي يفترض أن تتطابق بقدر كبير مع مصالح السكان، لكن الصفة الريعيّة لهذه العمليّة والخلل في آليّات اتّخاذ القرار يفصلانها عن العقد الاجتماعي أو السياسي العام، فتميل إلى منظور المموّلين تارة وأصحاب المصلحة في القطاع الخاص تارة أخرى.
والمشكلة أنّ النقاش العام الذي يفترض بالدولة الانطلاق منه لوضع أولوياتها الإعمارية، يتأثر بطبيعة نظامها السياسي والاجتماعي والاقتصادي. فالدول المُصابة بالعدوان الخارجي في منطقتنا، إمّا أنّها مرتبطة بصورة غير مباشرة بالنفط عبر التحويلات، ما يعرّضها للانقسام والتفاوت الاجتماعي والاضطراب السياسي وغيرها من العوارض السياسيّة للمرض الهولندي، وإمّا ذات اقتصاد نفطي، يعطّل أو يشوّه الخلفيّة التعاقديّة للمواطنة، التي من أول شروط اتساقها وتوازنها، التبادليّة بين الدولة التي ترعى الصالح العام والمواطنين الذين يؤدّون الضريبة.
ومع ذلك تتجنّب الدول والمؤسّسات الدولية المتحكّمة بعمليات إعادة الإعمار، دعم النموذج المركزي إلا إذا كان غرض الدعم تقوية سلطات سياسيّة مرتبطة به، أو مواجهة حركات التحرّر والمقاومة، أو إذا كانت إدارة الدولة للإعمار تتناسب مع برامج الغزاة.
وحتّى في هذه الحالة، يجري ربط البرنامج الإعماري للدولة بتصوراتٍ ومخطّطاتٍ وأهدافٍ مستمّدةٍ من القطاع الخاص أو من منظمات المجتمع المدني المرتبطة بالخارج (مثلًا: شركة سوليدير في تسعينيّات القرن الماضي، ودور المنظمات غير الحكوميّة في إعادة الإعمار بعد انفجار المرفأ في لبنان 2020)، ولذلك يطول زمن الإعمار ولا يحقّق إلّا اليسير من أهدافه.
النموذج التضامني
يدور الأمر هنا مدار فكرة المواطنة باعتماد مبدأ الشراكة بين المتضررين والأجهزة المعنيّة بإعادة الإعمار، ويقفون على أرضية واحدة قوامها إزالة آثار العدوان، وأن يكون الإعمار عبر السكان وإليهم ومن أجلهم، ومندمجًا بقوّة في العقد السياسي للدولة.
يتّصف هذا النموذج بالفعالية بالمقارنة مع النموذجين الآخرين، كما في إعادة إعمار الضاحية الجنوبيّة لبيروت بعد حرب تموز 2006 عبر مشروع "وعد".
الفعاليّة المتجسدة: 1) عمرانيًا ببناء المساكن كما كانت عليه بأفضل طريقة وبما يتوافق مع أولويات المتضرّرين. 2) اجتماعيًا بالحفاظ على تماسك المجتمع وبنيته ونسيجه. 3) اقتصاديًا بجعل الدورة الإنتاجيّة المرتبطة بإعادة الإعمار داخلية قدر الإمكان ومغذية لمداخيل المتضررين والمقيمين من السكان. 4) ماليًّا بتعبئة ما يكفي من الموارد لردم الفجوة بين كلفة الإعمار وقيمة التعويضات المدفوعة من الدولة. 5) مؤسساتيًا بنجاح المشروع في بلوغ مراميه بأقل مدّة زمنيّة وأدنى كلفة (كانت فعاليّة التنفيذ عند المؤسسات المرتبطة بالمقاومة أو المقرّبة منها عالية جدًا والكلفة أقلّ بكثير من مثيلاتها الحكوميّة والغربيّة.
ينطبق ذلك على مشروع وعد الذي حقّق وفرًا معتدًا به في الأكلاف مقارنة بحالات مماثلة، وكذلك على إعمار بعض الجسور التي دُمرت خلال حرب تموز وأعادت الهيئة الإيرانيّة بناءها بأقل من نصف كلفتها التاريخيّة).
عودٌ على بدء
بتحليل وقائع ما بعد حرب (2024) التي لم تنتهِ فصولها بعد، نتلمس إرادة خارجيّة وداخليّة للجمع بين المقاربتين التقليديّة/ المركزيّة، والموجّهة غربًا، بخصوص لبنان. في الأولى أقرّ البنك الدولي تمويلًا بالاقتراض بقيمة 250 مليار دولار أميركي يمكن أن تصل إلى مليار دولار أميركي مخصّصة حصرًا للبنى التحتيّة المتضرّرة في الحرب.
ووفقًا للمعايير المنصوص عنها في توزيع المبالغ المرصودة، كما بات معروفًا، لا تستفيد من هذا التمويل المناطق اللبنانيّة المتاخمة للحدود مع فلسطين التي تضمُ نحو 23 قرية وبلدة مدمّرة بصورة كليّة أو شبه كلّية.
وتتباطأ الدولة اللبنانيّة في القيام بالخطوات التمهيديّة للإعمار، ومنها عدم الشروع بتنفيذ ما ورد في البند 28 من لائحة الإصلاحات التي أقرّها مجلس الوزراء في أول جلسة له بعد نيل الثقة، والذي نصّ على إنشاء صندوق مستقلّ لإعادة الإعمار "من أجل حشد الدعم العربي والدولي اللازم لبناء ما تهدّم ومعالجة آثار الحرب على لبنان، ولا سيما الاجتماعيّة منها، من دون أي مقايضات وشروط"، ومنها أيضًا أنّ الحكومة انتظرت سبعة أشهر بعد اتفاق وقف إطلاق النار لإحالة مشروع قانون لإعفاء المتضرّرين من الحرب، والذي أُقرّ بعد الكثير من الأخذ والردّ. ولم تُبصر النور بعد الآليّات المطلوبة للتعويض على المتضرّرين. وفي ما استكملت فرق العمل التابعة لحزب الله إنجاز الغالبيّة العظمى من الإحصاءات فإنّ المؤسّسات الحكوميّة لا تملك قاعدة بيانات وافية عن نتائج العدوان.
وهذه الوتيرة بطيئة جدًا إذا ما قارناها بورشة ما بعد حرب تموز 2006. بل إنّ الدولة تساير الضغوط الخارجيّة لتعطيل قنوات التمويل غير الرسمي للإعمار، فتشدّد مراقبتها لنقل الأموال وتستهدف قنوات التعويض على المتضررين كما في تعميم المصرف المركزي لحظر التعامل مع جمعيّة القرض الحسن بتاريخ 14 تموز 2025.
ويُراد لعمليّة الإعمار في لبنان أن تكون في جوهرها موجّهة غربًا، حيث تمتلئ جُعَب الموفدين العرب والغربيّين بالشروط السياسيّة والاقتصاديّة و"الإصلاحيّة" التي تعطّل إطلاق تلك العمليّة.
ولا يقتصر الأمر على الشروط المتعلّقة بمستقبل سلاح المقاومة، بل ينال لائحة متناسلة من البنود التي يُراد منها هندسة المجالَين السياسي والاقتصادي في لبنان وتقرير مصير البلد لأجيال قادمة.
ولا يتردّد مسؤولون عرب وأجانب وبعض أنصارهم المحليّين في الإفصاح عن أنّ مسار الإعمار في لبنان هو استكمال للحرب بطريقة أخرى، وتُمارس ضغوط على الدولة لعدم القيام بالخطوات اللازمة لوضع الأمور في نصابها، ويعبّر التجاهل الذي لاقته مبادرة العراق إنشاء صندوق عربي لدعم لبنان وغزّة في القمّة العربيّة التي انعقدت ببغداد منتصف أيار 2025، عن عمق القرار الإقليمي والدولي لوضع التعافي من الحرب في صندوق المساومات.
يُراد للإعمار في لبنان أن يتبنى مقاربة مزدوجة، تقليديّة وموجّهة غربًا، تصبّ في طاحونة الرطانات المتكرّرة عن الشرق الأوسط الجديد، ونظرة ترامب للعلاقات الاقتصاديّة بين الدول.
وتحقيق هذين الأمرين يقتضي الإطباق التام على المنطقة بوصفها إحدى المناطق المفيدة في العالم وغنيمة تستحق المخاطرة والصراع، ضدّ القوى الإقليميّة المستقلّة والمقاوِمَة وفي مواجهة التمدد الصيني الذي يخترق إفريقيا ووسط آسيا وتراوده آمال عريضة بالوصول إلى شرق المتوسط والخليج.
ولعل العنوان العريض لكلّ ذلك هو القوميّة الاقتصاديّة التي ترتفع أسهمها في واشنطن، مع ما تنطوي عليه من قيود تجاريّة متشدّدة، وجباية للريع الأمني من أقطار العالم، والتعامل مع المناطق المدمّرة في الجزء المفيد من العالم على أنها فرصة ومجال للاستثمار تقوده الطبقات التكنو ــ رأسماليّة بفئاتها المختلفة وأذرعها العالميّة المتشابكة، كما سيرد لاحقًا.