أوراق ثقافية

عن نهب «استديو بعلبك» و«تضحيات لقمان سليم وزوجته»: البلاد السائبة والتبجّح بالسرقة

post-img

بدر الحاج/ جريدة الأخبار

مناسبة الحديث عن مصير أرشيف «استديو بعلبك» الآن هو برنامج بثّته محطة ميشال المر يروّج لـ«تضحيات لقمان سليم وزوجته» وإنقاذهما قسمًا من أرشيف الاستديو من التلف. البرنامج الترويجي على امتداد ساعة كاملة، يسرد رواية مغايرة تمامًا لما حدث وكيف تم الاحتفاظ بقسم من الأرشيف الوطني.

المستغرب قبل الحديث عن الموضوع هو الموقف اللامبالي من السلطة اللبنانية، وبصورة خاصة من وزارة الثقافة، حين يعترف طرف علنًا وأمام جميع اللبنانيين أنّ بحوزته قسمًا من التراث الثقافي اللبناني الذي هو ملك للشعب اللبناني. مرّ الأمر مرور الكرام، لا تعليق ولا مطالبة باستعادة ما تم الاستيلاء عليه بغضّ النظر عن الطريقة، وكأن السيطرة على ممتلكات الدولة أمر لا يعني أحدًا، مع أنه من الناحية القانونية يتنافى تصرّف السلطة كليًا مع مبدأ أنّ الدولة مؤتمنة على ثروة البلاد الثقافية التي هي ملك لجميع اللبنانيين.

كما إنّ من بديهيات الأمور، وبغضّ النظر عن الدوافع التي يتذرّع بها من استولى على قسم من الأرشيف، أن يصدر أمر باستعادة ما أُخذ بالرشوة من قبل موظفين فاسدين.

الرواية التي سبق أن تحدّث عنها لقمان سليم وتكررها زوجته اليوم، هي أنه أنقذ القسم الذي تسلّمه من الأرشيف الذي كان سينتقل إلى مكبّ للنفايات، لأنّ صاحب المبنى الواقع في سن الفيل، والذي يحتوي على قسم من أرشيف «استديو بعلبك»، قد قرّر إزالته. الرواية مختلقة تمامًا وأشبه بقصة بوليسية.

المعروف أن محتويات الأرشيف كانت تُسوّق من قبل موظفين فاسدين، وتم بالفعل بيع أقسام عدة من الأرشيف قبل أن يقوم سليم في العام 2010 برشوة الفاسدين ويحصل على حصته من ثروة الدولة المنهوبة.

كما إنه من المؤكّد أن فرعًا ثانيًا للأرشيف كان قد تم الاحتفاظ به في الطابق الأسفل من مبنى يقع مقابل وزارة الداخلية. وكان لقمان سليم قد نقل منه أيضًا بواسطة شاحنة كمية ضخمة من الأرشيف الورقي وبعض الأفلام، وهذا ما شاهده أحد الموظفين السابقين في مؤسسة «استديو بعلبك».

إذا سلّمنا جدلًا أنّ سليم نقل قسمًا من محتويات الأرشيف بهدف إنقاذه من التلف لأن المبنى سيهدم، فماذا عن المحتويات التي نقلها من المبنى المقابل لوزارة الداخلية والذي لا يزال قائمًا؟ هل ضحّى بالمال لإنقاذه أيضًا، أم تم منحه إياه مجانًا من بين كل اللبنانيين؟

من حيث المبدأ، رواية سليم الذي ينفي فيها تهمة السرقة عن نفسه لا أساس لها من الصحة، وما تبجّحه من أنه هو الذي أنقذ قسمًا من الأرشيف وأنه الوحيد الذي اهتم بالأمر ليس إلا تغطية مكشوفة لفعل الاستيلاء بلا أي وازع على تراث اللبنانيين الثقافي.

إن ما جرى يتلخّص بأن عددًا من الموظفين الذين امتهنوا الرشوة أيضًا كانوا يعرضون على دفعات للبيع محتويات الاستديو، ولم يكن لقمان سليم الوحيد الذي اشترى من الموظفين المحميين من ميليشيات نهبت ممتلكات الدولة من المرفأ إلى أرشيف «تلفزيون لبنان»، إلخ.

ادّعاء لقمان سليم على موقعه الإلكتروني عن أهداف مؤسسته «أمم للتوثيق والأبحاث» مضحك حقًا، فهو يقول إن مؤسسته تهدف إلى «ترسيخ الممارسات السياسية في أخلاقيات تؤسس لدولة القانون». مهلًا، وقليلًا من الحياء! هل الأخلاقيات وتأسيس دولة القانون تعني الاستيلاء على أملاك الدولة السائبة؟

أين موقع الأخلاق في تصرّف سليم؟ وكيف يُسمح لمن يشرف على مؤسسة سليم أن يفاخر أمام جميع اللبنانيين بأن الأرشيف نُقل إلى ألمانيا لترميمه والمحافظة عليه؟ أليس هذا الأرشيف ملكًا للبنانيين؟ ومن سمح بإخراج هذا الكنز الثقافي من لبنان؟

هل جرى اتفاق رسمي بين لبنان وألمانيا في هذا الشأن؟ أم نُقل سرًّا إلى ألمانيا بواسطة الرشوة أو عبر السفارة الألمانية التي تموّل وتدعم نشاطات مؤسسة سليم؟ الجميع في لبنان يعرف أن المخابرات الألمانية تموّل وتوجّه عددًا من منظمات الـ«إن. جي. أو» والمواقع الإلكترونية، وفي مقدمتها مؤسسة لقمان سليم.

الكلام عن نقل الأرشيف إلى ألمانيا في الحلقة التلفزيونية جرى التفاخر به، وهو استيلاء غير شرعي على ملك عام، بحجّة المحافظة عليه من التلف. حسنًا، لماذا إذا كانت الحال كذلك لم يسلّم ما أصبح في عهدة مؤسسة سليم إلى الدولة التي باشرت بترميم القسم المتبقي من الأرشيف؟ ولماذا لم يتحرّك أحد من السلطة لمطالبة الألمان باستعادة ما نُقل من تراث وطني من دون علم الدولة إلى ألمانيا؟

الجواب الوحيد لهذا التقاعس والتجاهل هو أنّ السلطة تخشى إثارة هذا الموضوع الوطني بامتياز خشية مواجهة السفارة الألمانية التي تحمي وتموّل من قام بهذه القرصنة الموصوفة.

في الدول الأوروبية، تمنع القوانين كل فرد يملك شخصيًا مخطوطات أو أعمالًا نادرة من المستحيل وجود أكثر من نسخة منها من بيعها، فأولوية الاقتناء هي للدولة التي تعتبر المادة الموجودة تراثًا وطنيًا...فكيف إذا كانت المادة في الأصل ملكًا للدولة؟ ورغم ذلك، لم تُشر الحلقة التلفزيونية على الإطلاق، عن سوء نية وسابق تصوّر وتصميم، إلى أن هناك أكثر من فريق لبناني يعمل جاهدًا على إنقاذ الأرشيف بموجب اتفاق موقّع من وزارة الثقافة أقرّته الحكومة اللبنانية مع جامعتين لبنانيتين هما «جامعة الكسليك» و«جامعة سيدة اللويزة».

يعمل الخبراء المختصون في الجامعتين منذ مدة على ترقيم وترميم وتنقية وحفظ ما تبقّى من أرشيف «استديو بعلبك» في حوزة الدولة. ووفقًا للاتفاق، تتولّى «جامعة الكسليك» ترميم الصوتيات وتحسينها، في حين يشرف خبراء في «جامعة سيدة اللويزة» على إنجاز القسم المصوّر من الأرشيف بواسطة أحدث التقنيات، حيث تُراعى وسائل حفظ الأفلام في درجة حرارة محددة.

ما جرى لأرشيف «استديو بعلبك» لا يدعو للعجب، فمثالب حرب لبنان والفساد وتسلّط الميليشيات لم تقتصر على فرض الخوّة والضرائب على الأفراد والمؤسسات التي تقع ضمن نفوذ الميليشيات، بل شملت كل مؤسسات وممتلكات الدولة السائبة. جميع مفاصل الحياة، سواء في أجهزة الدولة أو على الصعيد الشعبي، هي في متناول الجميع من دون حسيب أو رقيب، وكل شيء مقابل ثمن.

مثلًا: جميع أجهزة الهاتف ومواقع الإنترنت مراقَبة ليس من الدولة فقط، بل من أجهزة أمنية خارجية أيضًا. بإمكانك معرفة جميع مالكي السيارات باتصال هاتفي. السجلات الطبية لكل شخص معروفة لمعظم أجهزة الأمن الأجنبية العاملة في لبنان.

البحر والجو والبر والمراكز الحدودية مراقَبة، والآثار تُهرّب، والأملاك البحرية سائبة... ولن أطيل أكثر من ذلك. أما السلطة، فلم تعرف أن تحاكم حتى اليوم من نهب أموال اللبنانيين، ومن فجّر المرفأ. الشغل الشاغل للحكومة في الأيام الماضية كان: هل تُضاء صخرة الروشة أم لا؟ وكيف تمرّ قضيّة إطلاق سراح رياض سلامة بسلاسة على اللبنانيين؟

لكل ذلك مرّ موضوع الاعتراف والتباهي بنقل قسم منهوب من أرشيف «استديو بعلبك» إلى ألمانيا كخبر عادي. قديمًا قيل: «المال السائب يعلّم الناس الحرام». لكن ماذا عندما يتبجّح السارق بأنّ ما فعله هو عمل يفتخر به؟ في مثل هذا الوضع، يصحّ قول سعيد تقي الدين: «ما أفصح القحباء حين تحاضر بالعفّة».

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد