اوراق مختارة

جريمة بيئيّة ضد محميّة الأرز في بشري...مَن يسائل «اللجنة»؟

post-img

ربى أبو فاضل (جريدة الديار)

يشكل الأرز رمزاً وطنياً وهوية بيئية وثقافية للبنان، ليس فقط كشجرة تزين العلم والنشيد، بل كتراث حي يجسد الصمود والجمال، في وجه التحولات الطبيعية والبشرية على مر القرون، فغابات الأرز، المنتشرة على قمم الجبال اللبنانية، ليست مجرد مساحات خضراء، بل رئة حيوية للنظام البيئي اللبناني، تؤدي دوراً أساسياً في حماية التنوع البيولوجي، وتساهم في توازن المناخ، حفظ المياه الجوفية، ومنع انجراف التربة، فضلًا عن كونها وجهة سياحية وروحية ذات قيمة استثنائية، ومدرجة على لائحة التراث العالمي في عام 1998.

غير أن هذا الإرث الطبيعي الثمين بات اليوم مهددا بسلوك بشري جائر يعكس غياب الوعي والرقابة، وافتقارا للردع القانوني. ففي بلد يفترض أن يكون الأرز عنوانه البيئي الأول، تتعرض غاباته لاعتداءات ممنهجة وقطع عشوائي تحت ذرائع مختلفة، ما يشكل جريمة بيئية ضد واحدة من أهم ثرواته الطبيعية، ويهدد بطمس معالم إرث طبيعي فريد، يختصر هوية لبنان البيئية والتاريخية.

جريمة جديدة

مؤخرا، شهدت منطقة بشري حادثة تسببت بصدمة عميقة  للأهالي، إذ استفاق السكان على جريمة جديدة في غابة «أرز الربّ»، حيث تم الاعتداء على عدد من الأشجار المعمرة، في واحدة من أندر المحميات الطبيعية في الشرق الأوسط، واكتُشفت الواقعة حين لاحظ حراس الغابة ومواطنون جذوعاً مقطوعة حديثاً، فوثقوا المشهد بالصور ونشروها على وسائل التواصل، لتتحول خلال ساعات إلى قضية رأي عام.

هذا الاعتداء أثار موجة استنكار واسعة، وأعاد إلى الواجهة المساءلة والردع في بلد ترتكب فيه الانتهاكات البيئية بلا خوف من العقاب، مما يضع إرث لبنان الطبيعي في مواجهة مباشرة مع الممارسات البشرية الجائرة.

وتضم غابة أرز بشري التي تقع على ارتفاع يفوق 2000 متر، وتعد من أقدم غابات الأرز في الشرق الأوسط، قرابة 427 شجرة أرز معمرة يراوح عمرها بين 1000 و1500 سنة، إضافة إلى بقية أشجار الأرز الموجودة فيها، ويحيط بها سور حجري قديم بني عام 1870 لحمايتها. لهذه الغابة أهمية تاريخية، بخاصة لكونها الغابة الأساسية التي قطع الفينيقيون الأخشاب منها لبناء سفنهم ومعابدهم وليتاجروا بها مع المصريين والآشوريين، ومنها تم بناء هيكل سليمان أيضاً، بحسب الروايات القديمة.

أصابع الاتهام

ويرى ناشطون بيئيون أن البيانات لا تكفي لحماية الأرز، وأن المطلوب هو تفعيل القوانين البيئية والمحاسبة الصارمة، في بلد غالباً ما تبقى فيه الجرائم البيئية طي النسيان، بفعل النفوذ والمحسوبيات.

وجهت أصابع الاتهام إلى لجنة «أصدقاء غابة الأرز» بقطع أفرع وأغصان من أشجار معمرة، من دون الحصول على أي ترخيص رسمي من وزارة الزراعة، بذريعة أن الأشجار «يابسة» أو «مصابة»، وقد نفت اللجنة هذه الاتهامات، مؤكدة عبر وسائل التواصل الاجتماعي أن الغابة بخير، وأن ما قامت به جاء بناء على توصيات من خبراء، وبناء على تقرير صادر عن المهندس ميشال باسيل والدكتور نبيل نمر في العاشر من تموز الماضي، وأبدت اللجنة أسفها لما وصفته بـ"الهجوم الإعلامي غير المبرر».

تجدر الإشارة إلى أن غابة أرز الرب تخضع لإشراف وزارتي الزراعة والثقافة ووقف الأرز والبطريركية المارونية، وتشارك في إدارتها جهات علمية وبيئية متعددة، وقد تأسست لجنة «أصدقاء غابة الأرز» عام 1985 في بشري، بهدف حماية الغابة وتنفيذ مشاريع تحريج وزراعة بالتعاون مع المجتمع المحلي والبلديات.

«الزراعة تتحرك» 

وعلى المقلب الآخر، نجد تقريرا  لوزارة الزراعة يؤكد أن هذه الادعاءات غير صحيحة، ما يزيد من الضبابية حول من يتحمل المسؤولية المباشرة عن الاعتداء، حيث توجه وفد من وزارة الزراعة برئاسة رئيسة دائرة التنمية الريفية والثروات الطبيعية في الشمال السيدة رانيا وردان الى غابة ارز الرب، للاطلاع على اعمال التشحيل وقطع الاشجار الجافة التي تجرى هناك، واجرى الوفد بحثا مفصلا ودقيقا في كافة الاتهامات التي وجهت الى اللجنة، والتي وصفتها الاخيرة بانها اتهامات بلا وجه حق.

وأظهر التقرير أن كميات من الخشب نقلت من دون ترخيص أو مزاد علني شفاف، ما يثير تساؤلات حول مصير هذه الأخشاب والجهة التي استلمتها، خصوصا في ظل معلومات عن نية بيعها.

مصدر في وزارة الزراعة أكد أن « أن قطع الأرز هو مساس برمز وطني ، يشكل جزءاً من هوية لبنان الثقافية والروحية» ، مشيراً إلى أن «الوزير نزار هاني سيتوجه شخصياً إلى الغابة للاطلاع على الوضع ميدانياً».

يشار إلى أن اللجنة سبق وحصلت في السنوات الماضية على تراخيص خاصة بالتشحيل، ما يعني أنها تعرف جيدا الإجراءات القانونية، ويسقط حجه عدم المعرفة بضرورة الترخيص، فما جرى هذه المرة ليس سهوا بل مخالفة متعمدة، وتشمل المخالفات:

-        قطع أشجار معمرة دون ترخيص.

-        نقل حاصلات حرجية (الأخشاب) من دون إذن وزارة الزراعة

-         تنفيذ أعمال داخل محمية طبيعية خاضعة لرعاية دينية ورسمية دون أي تفويض.

-        التصرّف بالأخشاب بشكل غير شفاف ومريب.

وسطر محضر ضبط رسمي باللجنة، وتم فتح تحقيق قضائي فوري مع المتورطين.

يشار إلى ان القانون اللبناني رقم 558/1996 يمنع قطع أشجار الأرز بشكل مطلق، ويصنف الغابات المحمية كمناطق ذات حماية مشددة تخضع لإشراف وزارة الزراعة، وتعد مخالفة هذا القانون جريمة بيئية يعاقَب عليها جزائياً، كما تعتبر غابة أرز الرب من المواقع المصنفة كمحميات وطنية تخضع لإشراف مشترك بين الدولة والكنيسة، ما يجعل أي تدخل فيها من دون ترخيص كتعد مزدوج على الملكية العامة والإرث البيئي.

غياب منظومة إدارة واضحة للمحميات

خبير بيئي فضل عدم الكشف عن اسمه أكد أن «ما جرى في غابة أرز الربّ «لا يمكن تبريره تحت عنوان التشحيل»، موضحا أن «أي تدخل في غابة أرز معمرة، يجب أن يخضع لإشراف مباشر من وزارة الزراعة، وبمشاركة مهندسين مختصين بالأحراج، لأن خطأ واحدا في القطع قد يؤدي إلى موت الشجرة بالكامل”.

اضاف أن  «الاعتداء الأخير يعكس غياب منظومة إدارة واضحة للمحميات، وتداخل الصلاحيات بين اللجان والجهات الرسمية، ما يجعل الغابات عرضة للعبث أو الاجتهادات الفردية”، محذرا من أن «التعامل مع الأرز كملف إداري وليس كقضية وطنية بيئية، يعني أننا نخسر آخر رموزنا الطبيعية»، داعيا إلى تفعيل شرطة بيئية مستقلة ومحاسبة فعلية لكل من يتورط في جرائم قطع الأشجار.

وأشارت تقارير إعلامية إلى وجود وثيقة تعود لعام 1990، تتضمن إصدار قرار من محافظ المنطقة آنذاك بوقف نشاط الجمعية رسميا، بعد ثبوت مخالفات مالية وإدارية جسيمة، منها تحصيل رسوم غير قانونية من الزوار.

يبقى الأرز، الذي تغنى به الشعراء ورفرف في نشيد الوطن، شاهدا على مفارقة مؤلمة، في بلد يحمل الشجرة رمزا على علمه، ويتركها فريسة للمنشار والإهمال،  في بلد ترتكب فيه الجرائم البيئية كما ترتكب الجرائم السياسية، وتبقى الأسئلة معلّقة من خطط لقطع الأشجار؟ من سهل نقل الأخشاب؟ ومن يغطي على هذه المخالفات؟ وهل  سيتحرك القضاء لوضع حد لجرائم البيئة، أم سيبقى الأرز مجرد شعار على ورق؟ 

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد