عماد خشمان (صحيفة البناء)
يُعدّ الجنوب اللبناني أحد أكثر المناطق في المشرق العربي تجذّراً في علاقة الإنسان بأرضه، إذ تحوّلت هذه العلاقة من إطارٍ معيشي واقتصادي إلى رابطةٍ رمزية وثقافية تعبّر عن الانتماء والمقاومة في آنٍ معاً، ومن بين الرموز التي تجسّد هذا الإرتباط العميق، تأتي شجرة الزيتون في موقع الصدارة، لما تمثّله من ثباتٍ وخلودٍ وصمودٍ في وجه الزمن والعدوان، حتى غدت أيقونةً لتمسّك الجنوبيين اللبنانيين بأرضهم رغم تهديدات الإحتلال الإسرائيلي ومحاولاته المتكرّرة لاقتلاع الإنسان كما يقتلع الشجر.
منذ ما قبل قيام الكيان الإسرائيلي عام 1948، شكّل الجنوب اللبناني بيئةً زراعية تعتمد على الأرض مصدرَ رزقٍ وكرامة، فالقرى الممتدّة من بنت جبيل إلى مرجعيون، ومن صور إلى النبطية، لم تعرف الانفصال عن الأرض حتى في أحلك الظروف، وكان الفلّاح الجنوبي يرى في الأرض امتداداً لذاته وذاكرته ووجدانه، إذ لا تُورَّث الأرض عنده كملكيةٍ مادية فحسب، بل كقيمةٍ وجودية تتناقلها الأجيال مع قصص البطولة والصمود في وجه الاحتلالات والغزوات، وكثيراً ما كان الجنوبيون يقولون: “الأرض عرض، ومن يفرّط بالأرض يفرّط بالكرامة”.
تميّزت القرى الجنوبية بزراعة الزيتون منذ قرون طويلة، فقد أشار المؤرّخون والرحالة (مثل المؤرّخ العثماني نعمان أفندي، رحلة في جبل عامل، الأرشيف العثماني، اسطنبول، 1893) إلى أنَّ الزيتون في جبل عامل كان من أهمّ المحاصيل، ليس لقيمته الاقتصادية فحسب، بل لرمزيته الدينية والوطنية، وترسّخت في الوجدان الشعبي صورة الزيتونة كشجرةٍ مباركة خالدة لا تموت، جذورها في الأرض وثمارها نورٌ كما ورد في قوله تعالى: “يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ” (النور: 35)، ومن هنا تحوّلت الزيتونة في الجنوب إلى رمزٍ للمقاومة والثبات، يقابل فيها الجنوبيون آلة الحرب الإسرائيلية بجذورٍ ضاربة في الأرض لا تُقتلع.
منذ قيام الكيان الغاصب على أرض فلسطين وصولاً إلى إجتياح العام 1978، ثم الاحتلال الواسع عام 1982، تعمّد الجيش الإسرائيلي استهداف المزارعين، وقطع أشجار الزيتون، وحرق البساتين في العديد من القرى الحدودية مثل الطيبة، وعدشيت، وحولا، وكفركلا، وبليدا، ويارون ومارون الراس وعيتا الشعب ورامية ويارين والضهيرة، وكانت هذه الأعمال جزءاً من سياسة ممنهجة لإفراغ الأرض من سكّانها عبر ضرب مصدر عيشهم غير أنّ النتيجة كانت دوماً معاكسة، ففي كلّ مرّة كانت تُدمّر فيها الحقول، كان الأهالي يعودون بعد انسحاب القوات المعتدية ليعيدوا زرع الزيتون من جديد، حتى أصبحت مشاهد إعادة التشجير بعد العدوان مشهداً سنوياً من طقوس المقاومة الشعبية المدنية.
ويُروى أنّ في العديد من قرى الجنوب في شهر تموز من العام 1993، خلال عدوان “تصفية الحساب”، أُحرقت مئات أشجار الزيتون، فبادر الأهالي بعد توقف القصف والغارات إلى حملة جماعيَّة أعادوا فيها غرس الشجر في ذات الحقول التي أصابها الدمار، ورفعوا شعارهم الشهير: “إذا قطعوا زيتونتنا، نزرعها ألف مرّة”.
لم يكن موسم قطاف الزيتون في الجنوب في يومٍ من الأيام طقساً زراعياً عادياً، بل تحوّل إلى فعل مقاومة في ذاته، ففي كلّ خريف ومع حلول موسم القطاف كان يواجه المزارعون تهديدات الاحتلال المتمركزة في المواقع الحدودية، واليوم العدو الإسرائيلي من مواقعه على التلال المحتلة بعد العدوان الواسع على لبنان في عام 2024 والذي ووجه بمعركة “أولي البأس” يواصل استهداف المزارعين العائدين إلى حقولهم ويمعنُ في ممارسة اعتداءاته على العائدين من أبناء القرى المهدَّمة على “الحافة الأمامية” ومطلقاً النار حيناً على المزارعين الآمنين من نساء ورجال وكبار السن، ومرسلاً التهديدات عبر اليونيفيل أحياناً أخرى في مسعى لترهيبهم وتخويفهم من القدوم إلى حقولهم وقراهم، وإرسال المحلّقات المُسيَّرة فوق رؤوسهم وإلقاء المناشير التهديدية تارةً والقنابل الصوتية تارةً أُخرى مانعاً إياهم من قطاف محاصيل الزيتون هناك والتي هي في الأساس قد تضرّرت واحترق العديد منها بفعل الغارات والقصف بإستخدام قذائف الفوسفور الأبيض المحرَّم دولياً، بل في الكثير من الأحيان كان يتمّ قصفها وتخريبها وإحراقها عمداً.
قبل العدوان الأخير تكرّرت في السنوات الماضية مشاهد استهداف الفلاحين والمزارعين في الحقول، سواء بإطلاق النار التحذيري أو بقصفٍ مباشر حيث أُصيب عدداً من المزارعين أثناء جمعهم المحاصيل على مقربة من الشريط الشائك والجدار الحدودي الإسمنتي مع فلسطين المحتلة، ورغم ذلك يصرّ الأهالي على النزول إلى أراضيهم كلّ عام، مصطحبين أبناءهم وكأنّهم يعلنون من خلال القطاف الجماعي أنّ الزيتون باقٍ والإحتلال إلى زوال.
من أبرز الشواهد على التمسك بالأرض، مشهد العودة الجماعية إلى القرى بعد كلّ حربٍ أو عدوان، في يوم التحرير عام 2000 وبعده عاد عشرات الآلاف من أبناء الجنوب إلى قراهم التي هجّروا منها قسراً منذ الثمانينيات، وأول ما فعلوه هو ترميم المنازل والاعتناء مجدّداً بحقول الزيتون، وهذا المشهد تكرّر بعد حرب تموز 2006، إذ لم تمضِ أسابيع قليلة على وقف النار حتى بدأ الأهالي بإزالة الركام وإعادة زراعة الأرض وغرس الشتول مكان الأشجار التالفة، وقد وثّقت وسائل الإعلام آنذاك مشهد نساءٍ من بلدة عيتا الشعب وهنّ يقطفن الزيتون بين الأنقاض، في صورةٍ أصبحت رمزاً وطنياً لصمود الجنوب وإيمانه بأن الأرض لا تُترك ولو تحوّلت إلى رماد.
لم يعد الزيتون في الجنوب اللبناني مجرّد شجرةٍ مثمرة، بل صار حارساً للذاكرة الجماعيَّة للجنوبيين ومنه يُعصرُ زيتُ القناديل التي تضيء ليالي الشتاء الباردة، ويهدى في المناسبات الفرِحة ويُقدّمُ كزيتٍ مبارك عنواناً لقدسية الأرض والانتماء، وفي الأدب الشعبي الجنوبي ارتبط الزيتون بالأمثال والأهازيج، ومنها المثل القائل: “الزيتونة بتضلّ خضراء لو مرّ عليها الزمن”، وحتى اليوم تُقام مهرجانات الزيتون في قرى مثل يحمُر الشقيف، تبنين، بنت جبيل، دير قانون النهر، دير ميماس، وغيرها من القرى الصامدة كتأكيد على أنّ هذا الارتباط يتجاوز حدود الإنتفاع الاقتصادي إلى روحٍ ثقافية وطنية جامعة.
هكذا يبدو الجنوب اللبناني اليوم وكلّ يوم في علاقته بالأرض والزيتون، ليس مجرد مساحة جغرافية، بل فضاء للكرامة والذاكرة والمقاومة، فشجرة الزيتون التي واجهت الحديد والنار، بقيت واقفةً كشاهدٍ على أنّ الأرض التي تُروى بالعرق والصبر والدماء والتضحيات لا يمكن أن تُسلَب أو تخضع لمحتلٍّ غاصب. وفيها قال الشاعر محمود درويش: “شجرة الزيتون لا تبكي ولا تضحك، هي سيدة السفوح المحتشمة، بظلِّها تغطِّي ساقها ولا تخلع أوراقها أمام عاصفة، تقف كأنَّها جالسة، وتجلسُ كأنها واقفة..” ولعلّ أجمل ما يعبّر عن تلاحم الجنوبي مع الأرض هو قول أحد المزارعين من بلدة العديسة بعد عدوان تموز وآب 2006: “نحن لا نحرس الزيتون، الزيتون هو الذي يحرسنا ويحمينا من النسيان”.