شانتال عاصي (صحيفة البناء)
شهد لبنان خلال السنوات الأخيرة تزايداً في المخاوف البيئية نتيجة الصيد البري غير القانوني، مما دفع السلطات إلى اتخاذ خطوات صارمة لحماية الطيور والحفاظ على التوازن البيئي. وفي هذا الصدد، أصدر وزير الداخلية والبلديات أحمد الحجار تعميماً موجهاً إلى المحافظين والأجهزة الأمنية، شدّد فيه على ضرورة تطبيق قرار منع الصيد البري في جميع المناطق اللبنانية. ويستند هذا القرار إلى كتاب وزارة البيئة الذي يؤكد أهمية حماية الطيور المهاجرة خلال موسم الهجرة، وذلك لضمان استمرار التنوع البيولوجي والمحافظة على وظائف الطيور الطبيعية في النظام البيئي.
الأضرار البيئية للصيد البري غير القانوني
يمثل الصيد البري تهديداً كبيراً للتنوع الحيوي في لبنان، لا سيما مع استخدام وسائل غير قانونية وضيقة التأثير. الدبق والشباك، على سبيل المثال، تؤدي إلى قتل جماعي للطيور بلا تمييز بين الأنواع، ما يؤدي إلى تراجع أعدادها بشكل ملحوظ. كذلك تسبب الأنوار الكاشفة والأجهزة المقلدة لأصوات الطيور تشويشاً كبيراً على سلوك الطيور الطبيعي، مما يجعلها أكثر عرضة للصيد ويخل بالنظام البيئي.
تؤثر هذه الممارسات أيضاً في السلسلة الغذائية في الطبيعة، ففقدان الطيور المفترسة أو الحشرية يؤدي إلى زيادة أعداد الحشرات أو القوارض، مما يخل بالتوازن البيئي ويؤثر في المحاصيل الزراعية والصحة العامة. هذا الخلل البيئي يمكن أن يتفاقم على المدى الطويل، إذ تتعرض بعض الأنواع النادرة للانقراض التدريجي بسبب الصيد المفرط.
أكثر الطيور تضرراً ووظائفها الطبيعية
تُعد الطيور المهاجرة من أكثر الفئات تضرراً جراء الصيد البري في لبنان، خاصة خلال موسم الهجرة في الخريف والربيع، حين تمر البلاد على مسار الرحلات السنوية لهذه الطيور. من أبرز هذه الأنواع الزرزور، العصفور الدوري، وطيور الشحرور، إضافةً إلى طيور الجوارح الصغيرة التي تؤدي دورًا أساسيًا في النظام البيئي. هذه الطيور لا تقتصر أهميتها على كونها جزءًا من التنوع البيولوجي، بل تُساهم في مجموعة واسعة من الوظائف الطبيعية الحيوية.
فالطيور المهاجرة تعمل كعوامل تلقيح رئيسية للنباتات، ما يساعد على تكاثر النباتات البرية والزراعية، ويضمن استمرارية إنتاج المحاصيل. كما تؤدي دورًا محوريًا في السيطرة على أعداد الحشرات الضارة، إذ تتغذى على يرقات الحشرات والآفات الزراعية، مما يقلل الحاجة إلى استخدام المبيدات الكيميائية التي قد تضر بالتربة والمياه. إضافة إلى ذلك، تُساهم الطيور في نشر البذور عبر الهضم ونقلها لمسافات طويلة، وهو ما يُسهم في تعزيز تنوع النباتات واستقرار الغابات والمراعي.
إنّ انخفاض أعداد هذه الطيور نتيجة الصيد غير القانوني يؤدي إلى اختلال واضح في النظام البيئي، إذ تزداد أعداد الحشرات الضارة وتنخفض معدلات تلقيح النباتات ونشر البذور، ما يضع ضغوطًا إضافية على الأنواع الأخرى في السلسلة الغذائية. هذا الاختلال قد يؤدي إلى تراجع التنوع البيولوجي، وزيادة هشاشة الغابات والمزارع، ويجعل البيئة أكثر عرضة للتدهور والتغيرات المناخية. كما أن فقدان الطيور الجارحة الصغيرة، التي تتحكم في أعداد القوارض والآفات، يفاقم هذه المشاكل ويعطل التوازن البيئي الطبيعي بشكل كبير.
الوسائل غير القانونية... تهديد مضاعف للطبيعة
تشكل الوسائل غير القانونية المستخدمة في الصيد، مثل الدبق، والشباك، والأنوار الكاشفة، والأجهزة المقلِّدة لأصوات الطيور، خطرا يتجاوز مجرد قتل فردي للطيور؛ فهي تحدث أضرارًا مباشرة وفورية وكذلك آثارًا بعيدة المدى على بنية النظام البيئي. فعندما يُستخدم الدبق، تلتصق الطيور بجسيمات المادة اللاصقة فيفقد معظمها القدرة على الطيران ويُصاب بجروح ويُهلك سريعًا أو يموت متأثرًا بالإجهاد والجوع. هذا الأسلوب لا يميز بين البالغ والهاجر والصغير، فتتعرض أسراب كاملة للنفوق، كما تبقى طيور مصابة معطوبة على الأرض معرضة لصدمات جديدة أو للافتراس، مما يزيد من نسبة الوفيات غير المرصودة.
أما الشباك فعملها لا يقتصر على اصطياد الأهداف المرجوة، بل تحاصر مجموعات كاملة من الطيور لعدة ساعات أو أيام دون مساعدة، ما يؤدي إلى الاختناق والإصابات والاضطراب السلوكي. الشباك كذلك تُعيق عمليات إعادة التأقلم لطيور الفاشلين في الهجرة أو الصغار الذين تُفقد بيئتهم، وتزيد من احتمالات انتقال الأمراض الطفيلية والبكتيرية بين الطيور المصابة. هذه الوفيات الجماعية تترك فجوات في السلسلة الغذائية، فانحسار طائر واحد قد ينعكس بارتفاع أعداد حشرات أو قوارض ثم أضرار للمحاصيل والإنسان.
الأنوار الكاشفة والأجهزة المقلدة لأصوات الطيور تضيفان بعدًا آخر من التضليل والإرهاق. الأنوار الشديدة تُربك أنماط هجرة الطيور الليلية وتُفقدها قدراتها الاعتيادية على الملاحة، فتتصادم بالمباني أو تُجبرها على الهبوط في بيئات غير ملائمة، بينما الأجهزة الصوتية تغري الطيور بالاقتراب من مواقع مستخدَمة للصيد فتُجمع في مصيدة منظمة. هذه الوسائل تجعل الصيد شبه صناعي: جمع مبرمج ومنهجي مستهدف لأنواع معينة في أوقات حساسة من العام، ما يضاعف الضغط على الأنواع المهاجرة ويمحو الفترات الآمنة التي تحتاج إليها الطيور للتكاثر والتغذية.
إلى جانب الأثر البيولوجي، تولّد هذه الأساليب تأثيرات اجتماعية واقتصادية سلبية. قتل الطيور بالجملة يحرم المجتمعات المحلية من فوائد غير مباشرة مثل السياحة البيئية وصيد مستدام مُنظّم، ويشجع اقتصادًا غير قانونيّ قائمًا على الربح السريع يَصعب انتظامه في إطار رقابي وقانوني. كما أن وجود أدوات متطورة للصيد غير القانوني (أجهزة صوتية متقدمة، أنوار قوية، شباك صناعية) يشير إلى أن المشكلة أصبحت منظمة وتتطلب استجابة متكاملة لا تقتصر على الضبط الأمني وحده.
حماية الطيور واجب وطني وبيئي
أخيراً، إن الصيد البري غير القانوني في لبنان لم يعد مجرد تهديد محلي للطيور، بل أصبح عاملاً مؤثراً بشكل مباشر على التوازن البيئي والتنوع البيولوجي في البلاد. فالطيور المهاجرة والأنواع المحلية المتضررة تؤدي وظائف طبيعية حيوية تتعلق بتلقيح النباتات، مكافحة الحشرات الضارة، ونشر البذور، وكل اختلال في أعدادها ينعكس سلباً على الغابات والمزارع والمراعي، ويزيد من هشاشة النظام البيئي أمام التغيرات المناخية.
لذلك، يمثل تنفيذ قرار منع الصيد البري والتشديد على حظر الوسائل غير القانونية خطوة أساسية لحماية البيئة، ويجب أن يقترن بجهود توعية مجتمعية، ودعم مبادرات بيئية مستدامة، ورقابة فعّالة على المخالفين. فحماية الطيور ليست مجرد مسؤولية قانونية، بل واجب وطني وبيئي للحفاظ على استدامة الحياة الطبيعية، وضمان أن تبقى الأراضي اللبنانية موئلاً غنيًا بالتنوع البيولوجي للأجيال القادمة.