معتز منصور/ باحث في الشؤون الإقليمية
فصّل جديد في مأساة السودان.. بين الذهب والدم، تكتب الحرب السودانية فصلًا جديدًا من فصول التدخلات الإقليمية. هي ليست مجرد معركة على السلطة، هي اختبار حقيقي لمعنى السيادة وحدود النفوذ في عالمٍ يتغيّر بسرعة.
الأزمة السودانية مرآة للصراعات الإقليمية
لم تعد الأزمة السودانية شأنًا داخليًا، لقد تحولت إلى مرآة تعكس طبيعة الصراعات العربية المعاصرة: دولٌ تبحث عن نفوذٍ في ساحات الآخرين، وجيوشٌ موازية تتغذى من المال السياسي، وموارد وطنية تُستنزف لتغذية الحرب بدلا من بناء السلام.
التدخلات السلطوية تحت شعارات براقة
القصة، هنا، لا تتعلق بالسودان وحده، إنما بنمطٍ متكرر في المنطقة، تتدخل فيه أنظمة سلطوية تحت عناوين براقة، مثل "الاستقرار" و"مكافحة التطرف"، بينما تكون النتيجة دائمًا واحدة: شعوب ممزقة، وحدودٌ قلقة، ومشاريعُ تنهار قبل أن تكتمل.
أبو ظبي و"اقتصاد الحرب"
الدور الإماراتي في السودان ليس استثناءً من هذا النمط، الاتهامات التي طالت أبو ظبي بدعم قوات الدعم السريع، سواء عبر التمويل أم شبكات تجارة الذهب، كشفت جانبًا خفيًا من اقتصاد الحرب الذي يغذي الصراع بدلًا أن يطفئه.
"لاهاي" محطة قانونية استراتيجية
في العام الماضي، رفعت الحكومة السودانية شكوى أمام محكمة العدل الدولية، متهمة جهاتٍ إقليمية بتقديم دعم مباشر لقوات مسلحة في دارفور، ما أسهم في تصاعد العنف هناك. وعلى الرغم من أنّ المحكمة لمّا تصدر قرارها بعد، فإنّ مجرد طرح القضية أمامها شكّل سابقة عربية تُعيد النقاش في حدود تدخّل الدول ومسوؤليتها في صون السلم الإقليمي.
من البشير إلى الدعم السريع.. تحوّل الأدوار العسكرية
لفهم جذور الأزمة، لا بدّ من العودة إلى نشأة قوات الدعم السريع، والتي أسسها نظام البشير لمواجهة التمرّد في دارفور، ثم تحوّلت تدريجيًا إلى كيانٍ مستقلٍّ يمتلك شبكات تمويل وتسليح خاصة، وعلاقات خارجية نسجت حوله هالة من النفوذ. ومع سقوط النظام، وجدت هذه القوات نفسها لاعبًا رئيسًا، تمتلك المال والسلاح والغطاء السياسي لتتحول من أداة إلى مركز قرار.
الذهب وقود للصراع
الوجه الأخطر في الأزمة هو الجانب الاقتصادي؛ فوفقًا لتقارير دولية، كانت كميات ضخمة من الذهب السوداني تُهرّب عبر قنوات غير رسمية، لتجد طريقها إلى الخارج، لا سيما إلى أسواق الإمارات. وبذلك تحوّل الذهب، وهو الثروة الوطنية الأهم، إلى شريانٍ يغذي الحرب، ويمنح الميليشيات قدرةً على الصمود والاستقلال المالي عن الدولة.
الإدراج في القائمة الرمادية وتداعيات غسيل الأموال
في العام 2022، أدرجت مجموعة العمل المالي (FATF) الإمارات في "القائمة الرمادية"؛ بسبب ثغرات تتعلق بمكافحة غسيل الأموال وتمويل النزاعات. وعلى الرغم من رفعها لاحقًا بعد تطبيق إصلاحات، ظلّت الشكوك قائمة في التقارير الأوروبية حول استمرار تدفق الذهب السوداني خارج الرقابة الرسمية، في ظل اقتصادٍ موازٍ يصعب تتبعه.
السودان بين المصالح الدولية والإقليمية
ذلك كله جعل من السودان ساحةً مفتوحة لتقاطع المصالح الدولية والإقليمية. الولايات المتحدة، مثلًا، استخدمت ورقة الضغط الاقتصادي حين جمّدت صفقة مقاتلات “إف-35” مع أبوظبي، مشيرة إلى أدوارها في نزاعاتٍ عدة، بينها النزاع السوداني.
الجيش والمسار الانتقالي.. هشاشة الدولة المدنية
مع تراجع الدعم الخارجي جزئيًا، أعاد الجيش السوداني ترتيب مواقعه، لكن المسار الانتقالي نحو الدولة المدنية بقي هشًّا تحت ثقل السلاح والمال والولاءات المتقاطعة.
الفاشر البوابة الاستراتيجية للصراع
من دارفور إلى الفاشر، تظهر الجغرافيا عاملًا حاسمًا في فهم الصراع؛ فهذه المنطقة لا تفصلها سوى مئات الكيلومترات عن الحدود الليبية والتشادية والمصرية، ما يجعل تمدّد الميليشيات تهديدًا مباشرًا للأمن الإقليمي.
القلق المصري.. حدود معرضة للخطر
ينبع القلق المصري تحديدًا، بناء على ذلك؛ فوجود قوةٍ مسلحةٍ مدعومة خارجيًا على تخوم الحدود الجنوبية لا يمكن عدّه شأنًا بعيدًا عن الأمن القومي. والأسوأ أن يتحول هذا الوجود إلى ورقة ضغطٍ في ملفاتٍ إقليمية أخرى مثل سد النهضة، حين تتقاطع المصالح بين أطرافٍ متعارضة في الجغرافيا والسياسة.

الدرس الإقليمي.. الفوضى حين تُصدّر
إنّ ما يجري في السودان ليس سوى جرس إنذار جديد للمنطقة بأكملها. إذ حين يُختزل النفوذ في المال والسلاح، تتحول الدول إلى ميادين اختبارٍ لمشاريع الآخرين، وتضيع سيادة الشعوب بين مصالح الكبار.
استقرار السودان ركيزة لأمن مصر والمنطقة
الدرس الأهم أن استقرار مصر مرتبطٌ باستقرار السودان، وأنّ حماية السودان من الانهيار مسؤولية جماعية، لا شعارًا عابرًا. أما في الخرطوم، فالذهب لا يزال يلمع… لكن تحت لمعانه دمٌ كثير، وسؤالٌ مفتوح عن مستقبل بلدٍ يستحق أن يعيش بسلام، لا أن يُستنزف في حروب الآخرين.