غسان ريفي (سفير الشمال)
لا يمكن اعتبار الهجوم الذي استهدف احتفالًا يهوديًا في منطقة بونداي في سيدني بأستراليا حدثًا معزولًا عن السياق الدولي المتفجر منذ بدء الحرب "الإسرائيلية" على غزّة. ورغم الإدانة الواضحة لأي اعتداء على مدنيين، فإن قراءة هذا الحدث تفرض التوقف عند الخلفيات السياسية التي تغذّي مثل هذه التصرفات، كما عند محاولات استثمارها سياسيًا، خصوصًا من قبل حكومة بنيامين نتنياهو.
كل الإدانات المشروعة والمطلوبة لهذا الحادث، لا تعنى تعطيل التحليل والبحث عن الأسباب والدوافع، كما أنها لا تبرر القفز فوق المشهد الأوسع التي يتشكّل منذ أشهر على وقع المجازر اليومية في غزّة والحصار الخانق والتدمير المنهجي للحياة المدنية الفلسطينية.
سارعت حكومة نتنياهو إلى توظيف الهجوم ضمن خطابها التقليدي القائم على تصوير اليهود في كلّ مكان، كضحايا دائمين لتهديد عالمي. هذا الخطاب، الذي يلقى آذانًا صاغية في بعض العواصم الغربية، يقوم على خلط مقصود بين معاداة السامية كعنصرية مرفوضة، وبين أي نقد لسياسات دولة "إسرائيل" أو إدانة جرائمها في غزّة.
وفي هذا الإطار، حاول نتيناهو توظيف الحادث لتصفية حساباته مع الحكومة الأسترالية من خلال انتقاد قيام أكبر تظاهرة في العالم على أرضها تضامنا مع غزّة، ومن ثمّ موافقة أستراليا مع دول أخرى على إقامة دولة فلسطينية، وهو عمل على تبديل الوقائع، بالإشارة إلى أن يهوديا دفعته غيرته إلى مواجهة المعتدي، في حين أن تقارير الشرطة أكدت أن من واجه المعتدي وتصدّى له وتعرض لإصابة هو رجل أسترالي ـ سوري، من مدينة إدلب، مسلم.
يبدو واضحًا أن نتنياهو سيسعى إلى استثمار الحادث في الداخل إلى أبعد الحدود، سواء في إسكات المعارضة عن تجاوزاته، أوفي تعطيل ملاحقاته القضائية، والتأكيد للمجتمع "الإسرائيلي" أن ما يقوم به من غزّة إلى سورية مرورًا بلبنان هو من أجل حماية "إسرائيل"، لكن هذا المنطق قد يواجه بتحميل نتنياهو مسؤولية ما يحصل مع اليهود على امتداد العالم نتيجة ارتكاباته في غزّة والتي غيرت نظرة الرأي العام العالمي تجاه "إسرائيل"، وصولًا إلى ملاحقة الصهاينة في بعض الدول ووصفهم بالإرهاب، وتأكيد بعض الحكومات على توقيف نتنياهو في حال وصل إلى أراضيها.
وهذا يعني أن "إسرائيل" التي تمارس القتل الجماعي والحصار على غزّة وتواصل اعتداءاتها على لبنان وسورية لا يمكن تقديم نفسها كضحية، ولا يمكن استخدام أي اعتداء على اليهود حول العالم كدرع سياسي لتبرير جرائم الدولة.
لا شك في أن التجارب التاريخية، تُظهر أن العنف المنهجي الذي تمارسه الدول لا يبقى محصورًا داخل حدود الصراع، وما جرى ويجري في غزّة يُنتج غضبًا عالميًا، وشعورًا عميقًا بالظلم، قد يتخّذ أشكالًا منحرفة ومدانة في أماكن بعيدة، كما في سيدني أو غيرها، وهذا الربط لا يهدف إلى تبرير أي اعتداء خارج فلسطين، بل إلى التذكير بأن إرهاب الدولة يولد عنفا متفلتا لا حدود له وقد يطال أبرياء، كما أن معالجته لا تكون أمنيا فقط بل سياسيًّا وأخلاقيا.
في غضون ذلك، تبدو الدول الغربية أمام تناقض كبير، كونها تدين أي عنف ضدّ اليهود أو غيرهم، وتتحصن بالصمت حيال حرب الإبادة على غزّة، وهذه الازدواجية التي يلحظها الرأي العام العربي بوضوح، تقوّض الخطاب الغربي حول حقوق الإنسان وتُظهر أن القانون الدولي يُطبق بانتقائية.
قد لا يختلف إثنان على إدانة وشجب ما حصل في بونداي ـ سيدني، لكن أن تسارع حكومة نتنياهو لتحويله إلى أداة سياسية ومادة لتحقيق المكاسب والمصالح، فهذا يندرج ضمن إستراتيجية صهيونية تهدف إلى قلب الأدوار والتغطية على جرائم الكيان الغاصب الذي يعتمد استثمار الضحايا، بدل أن يعمل أو أن يُجبر على وقف عدوانه وإنهاء احتلاله وإعادة الاعتبار للعدالة كشرط وحيد للأمن.