أمين قمورية (أساس ميديات)
يمثّل السقوط الدمويّ لمدينة الفاشر، آخر المعاقل الإقليميّة الكبرى في شمال دارفور، تحت قبضة “قوّات الدعم السريع”، تحوّلًا جيوسياسيًّا مصيريًّا يتجاوز حدود السودان، ليطال منظومة الأمن الإقليميّ في حوض النيل والقرن الإفريقيّ ومنطقة الساحل والصحراء. لم تعد المسألة تبدّلًا في موازين القوى العسكريّة على الأرض وحسب، بل إعلانٌ فعليّ لخروج إقليم دارفور من سلطة الحكومة المركزيّة في الخرطوم، وبداية مرحلةٍ جديدة قد تُفضي إلى أنفصالٍ واقعيٍّ عن الدولة السودانيّة.
بعد معركة الفاشر، باتت “الدعم السريع”، التي أقامت إدارة موازية في دارفور، تسيطر، مع حلفائها، على معظم مناطق غرب السودان وأجزاء من الجنوب، في حين يحتفظ الجيش السودانيّ بسيطرته على الشمال والشرق والوسط، الغارقة في حربٍ مستمرّة منذ أكثر من عامين. هذا الانتصار المشبع بالدماء والفظائع ضدّ المدنيّين منح ميليشيا محمد حمدان دقلو (حميدتّي) منفذًا إستراتيجيًّا إلى الحدود مع تشاد وليبيا يمنحها خطوط إمداد مستمرّة بالسلاح والوقود، ويكرّس سيطرتها على مناجم الذهب وشبكات التجارة غير الرسميّة التي تموّل عمليّاتها.
في ظلّ التحوّلات الإستراتيجيّة وشبكات الدعم العسكريّ واللوجستيّ والاستخباريّ التي تتلقّاها هذه القوّات من "إسرائيل" والإمارات وغيرهما من الدول، يبدو سيناريو قيام كيانٍ سياسيّ جديد في غرب السودان تحت قيادة “الدعم السريع” احتمالًا لم يعد مستبعدًا.
تغذّي هذا السيناريو مواقفُ ملتبسة من الإدارة الأميركيّة، الشريكة في “المجموعة الرباعيّة الدوليّة” المكلّفة التوصّل إلى تسوية للأزمة السودانيّة. بعدما استخدمت واشنطن السودان ساحةً لتجريب أدوات “الدبلوماسيّة العقابيّة” لتبرير تدخّلاتها في إفريقيا، باتت تُدرك أنّ السودان ليس هامشًا جغرافيًّا، بل محورٌ يربط بين البحر الأحمر والقرن الإفريقيّ وحزام الساحل، وهي مناطق تتقاطع فيها مصالح القوى الكبرى: الصين وروسيا وفرنسا وتركيا وإيران، إلى جانب نفوذ مصر ودول الخليج.
تاريخيًّا، لم تكن المقاربات الأميركيّة تجاه السودان تُفضي إلى تسوياتٍ مستدامة، بل إلى تفكيكٍ تدريجيّ للدولة:
في مطلع الألفيّة، تدخّلت واشنطن لمنع الجيش السودانيّ من حسم حرب الجنوب عسكريًّا، فدفعت نحو اتّفاق سلام أفضى إلى أنفصال جنوب السودان عام 2011، حاملًا معه 75 في المئة من موارد النفط.
في حرب دارفور، مارست إدارة جورج بوش الابن ضغوطًا على الخرطوم للقبول بقوّاتٍ دوليّة، فكانت النتيجة اتّفاق أبوجا (2006) الذي سرعان ما انهار، ممهّدًا لجولةٍ أعنف من الصراع وانتشار كثيف للسلاح.
تكرّر واشنطن اليوم المشهد ذاته بحرمان الجيش السودانيّ من القضاء على “الدعم السريع”، وفرض عقوبات عليه كلّما حقّق تقدّمًا ميدانيًّا، بذريعة احتوائه عناصر من النظام السابق أو تيّارات إسلاميّة متشدّدة.
حتّى حين استعادت وحدات الجيش السيطرة على الخرطوم لفترة وجيزة، أعلن المبعوث الأميركيّ توم بريليو أنّه “لا منتصر عسكريًّا في حرب السودان”، في رسالةٍ واضحة بأنّ واشنطن تسعى إلى تسويق “الدعم السريع” كطرفٍ سياسيّ متساوٍ مع الجيش، يمتلك شرعيّة التفاوض وربّما المشاركة في السلطة. بالنسبة للمؤسّسة العسكريّة السودانيّة، يُعدّ ذلك تشريعًا للتمرّد وتبييضًا لجرائم الحرب والإبادة الجماعيّة التي ارتكبتها الميليشيا بحقّ المدنيين في دارفور وغيرها.
التّحالف المصريّ - السّودانيّ: الدّفاع عن وحدة الدّولة
في هذا السياق، جاءت زيارة رئيس مجلس السيادة عبدالفتّاح البرهان للقاهرة محاولةً لتنسيق المواقف مع الشريك المصريّ في “الرباعيّة”، الذي يُعدّ أكثر الأطراف تضرّرًا من انهيار الدولة السودانيّة.
أعلنت القاهرة، التي تنظر إلى السودان كعمقٍ إستراتيجيٍّ وأمنٍ قوميٍّ مباشر، مرارًا رفضها لأيّ إجراءاتٍ “تتمّ خارج المؤسّسات الشرعيّة للدولة السودانيّة”، وهو الموقف ذاته الذي تبنّته المملكة العربية السعوديّة في بيانٍ رسميّ صدر في آذار 2025.
تخشى مصر أن يكون سقوط الفاشر مقدّمةً لسيطرة “الدعم السريع” على كامل دارفور، ثمّ التمدّد نحو كردفان، بما يمهّد لإعلان دولة مستقلّة في غرب السودان. وتتعامل القاهرة مع هذا التطوّر على أنّه تهديد ثلاثيّ الأبعاد:
تفكيك السودان بما يمسّ الأمن القوميّ المصريّ مباشرة.
تهديد المثلّث الحدوديّ المصريّ- السودانيّ- الليبيّ، حيث قد تمتدّ سيطرة “حميدتّي” إلى مناطق حيويّة حسّاسة.
خطر التمدّد شمالًا نحو الولاية الشماليّة المتاخمة للحدود المصريّة، بدعم من شبكات إقليميّة تشمل تشاد وإثيوبيا، الخصمين التقليديَّين للمصالح المصريّة في وادي النيل.
انطلاقًا من ذلك، لا يُستبعد أن تفعّل القاهرة والخرطوم اتّفاق التعاون الدفاعي المشترك، لتوفير دعمٍ استخباريّ أو عسكريّ للجيش السودانيّ في مواجهة الميليشيات، حفاظًا على وحدة الدولة السودانيّة ومنع ولادة كيانٍ مسلّح خارج الشرعيّة.
تداعيات إقليميّة مفتوحة
ما جرى في الفاشر ليس تطوّرًا محلّيًّا في حربٍ داخليّة، بل زلزال جيوسياسيّ قد تمتدّ ارتداداته إلى كامل منظومة حوض النيل والقرن الإفريقيّ والساحل والصحراء. سيخلق قيام كيان مسلّح جديد في غرب السودان فراغًا أمنيًّا خطِرًا يعيد فتح خطوط تهريب السلاح والمقاتلين بين ليبيا وتشاد وإفريقيا الوسطى، ويهدّد الملاحة والأمن في البحر الأحمر.
إنّها لحظةٌ مفصليّة في تاريخ السودان والمنطقة، يتقاطع فيها المحلّي بالإقليميّ، والعسكريّ بالسياسيّ، في سباقٍ بين تفكّك الدولة وإعادة إنتاجها على أسسٍ جديدة.