علي حيدر (الأخبار)
ما يصدر عن المسؤولين الإسرائيليين (وزير الأمن يسرائيل كاتس نموذجًا)، ليس مجرد رد فعل لمشهد أمني متغيّر على الجبهة مع لبنان، بل مسار تصاعدي يهدف إلى فرض معادلات تعمّق هيمنة العدوّ على لبنان، تمهيدًا لخطوات عملية أكثر خطورة على أمنه ومستقبله.
لذلك، يواصل العدوّ اعتداءاته الميدانية على المقاومة وأهلها، مرفقًا إياها برسائل سياسية ترفع مستوى الضغوط لانتزاع مزيد من التنازلات من الدولة اللبنانية، إذ يصبح الخيار بين القبول بشروط سياسية قاسية أو الاستمرار في تلقي الضربات.
تعكس مواقف قادة العدوّ حقيقة أن الخطاب السياسي يأتي امتدادًا للقوة الصلبة أو محاولة لتعويض غيابها أو ضعف تأثيرها. لذلك، عندما يتحول الخطاب الأمني إلى تهديد ممنهج، لا يكون الأمر مجرد تصريحات عابرة، بل عملية تهدف إلى ترسيخ قواعد ومعادلات جديدة، وصياغة بيئة سياسية تمهّد لتغييرات جذرية تطال الهوية والموقع والدور والمصير.
تهديدات كاتس الأخيرة ليست مجرد كلام للإعلام، بل هي قمة جبل الجليد لرؤية إستراتيجية تسعى تل أبيب إلى ترسيخها في وعي الداخل اللبناني والرأي العام الدولي. فقد تحدث عن "لعب حزب الله بالنار"، رغم أن المقاومة لم ترد منذ اتفاق 27 تشرين على الاعتداءات المستمرة، ما يعني أن "إسرائيل" لا تربط التصعيد بالرد، بل بوجود القدرة نفسها. وهذه إشارة بالغة الأهمية: بالنسبة إلى العدو، ليس الفعل العسكري شرطًا للعدوان، بل يكفي امتلاك القدرة على حماية لبنان لتصبح تهديدًا.
من هنا، فان تهديدات كاتس لم تصدر لردع خطوات هجومية، بل لتجريم الوجود الدفاعي للمقاومة، وتصوير تسلّحها على أنه "عدوان استباقي" على "إسرائيل"، في حين يُقدّم الاستهداف "الإسرائيلي" على أنه "دفاع وقائي".
هذا النمط من الخطاب السياسي يمثل دعوة صريحة لإعادة صياغة مرجعية الصراع، من مواجهة على الحدود إلى معركة حول تعريف الأمن ذاته في لبنان، بما يخدم المصالح "الإسرائيلية" ويمهّد الطريق لخطوات لاحقة من دون أي عوائق، متجاهلًا أي اعتبارات سيادية أو أمنية أو إستراتيجية للبنان.
في كلامه أيضًا، ينتقل كاتس من لغة التحذير إلى لغة الإملاء، مطالبًا الدولة اللبنانية بنزع سلاح حزب الله وإبعاده عن الجنوب، ومتهمًا الرئاسة اللبنانية بالمماطلة. الفكرة الأساسية هنا ليست في القول، بل في المقصود منه: تحويل الدولة اللبنانية إلى طرف "يُحاسَب" أمام "إسرائيل"، وتصوير أي تأخر في تنفيذ مطالب الاحتلال على أنه خلل سياسي داخلي يبرّر المزيد من الضغوط والعمليات العسكرية.
بذلك، تركز "إسرائيل" على خلق أجواء سياسية ونفسية ضاغطة، وفرض حصار إعلامي ونفسي، وشرعنة استمرار الاعتداءات وتصاعدها، والدفع نحو خطوات أكثر استفزازية من دون انفجار شامل حتّى الآن، ومحاولة دفع لبنان نحو صدام داخلي. وهنا تتضح الغاية "الإسرائيلية": تآكل قدرة لبنان على اتّخاذ قرارات سيادية مستقلة، إذ يصبح التصدي للاعتداءات "مغامرة"، والتمسّك بعناصر القوّة "عبئًا"، والامتثال للشروط الخارجية "الخيار العقلاني" للدولة.
اللحظة التاريخية خطيرة، إذ تهدف كلّ الخطوات السياسية والعدوانية إلى الإيحاء بأن التنازل للعدو خيار "عقلاني". وبعض الأصوات اللبنانية تراها فرصة لإعادة صياغة الوضع الداخلي وتثبيت سلطة هجينة تُدار من الخارج مقابل وعود بتجميد النزاع أو تمويل اقتصادي أو دعم دولي، رغم أن التجربة أظهرت أن الثمن الأمني والسيادي لمثل هذه الخيارات أثقل بكثير من أي مكسب موهوم.
أي تنازل غير مشروط اليوم سيُقرأ في تل أبيب كدليل على فعالية إستراتيجية الضغط، ما يفتح الباب أمام مطالب إضافية ويعيد النقاش حول سيادة القرار الأمني بندًا بعد بند. الخطورة الأكبر أن هذه الضغوط لا تستهدف المقاومة فقط، بل تمس بنية الدولة ومفهوم السيادة ذاته؛ فطلب التخلي عن القدرة على حماية النفس ليس إصلاحًا لمعادلة أمنية، بل بداية تفكيك للكيان الوطني.