اوراق مختارة

تهويد التراث الفلسطيني في محاولات لخلق رواية غير موجودة

post-img

بثينة حمدان/ العربي الجديد

قبل أيام فوجئ سكان بلدة السموع جنوب مدينة الخليل باقتحام عشرات المستوطنين تحت حماية جيش الاحتلال، حيث أدّوا صلواتهم التلمودية عبر مكبرات الصوت، وأطلقوا موسيقاهم وأغانيهم العبرية في برج السموع الأثري الذي بُني في القرن الرابع الميلادي ويعود تاريخه إلى العصر الروماني، ليتحوّل من معلم تاريخي إلى مسرح للتهويد والتأويل ضمن روايات الاحتلال المزعومة.

بين طقوس دينية لا تمتّ بصلة إلى المكان، وأغانٍ وموسيقى صاخبة تضجّ في البلدة التي تزخر بآثار الحضارة الكنعانية والرومانية، تتجدد التساؤلات حول ممارسات الاحتلال الإسرائيلي ومستوطنيه في مواقع التراث الثقافي الفلسطيني التي شهدت مرور حضارات عالمية متعاقبة.

يقول أكرم أبو طبيخ، حارس الموقع الأثري، في حديثه إلى العربي الجديد: "الاعتداءات الإسرائيلية التي تستهدف الموقع كثيرة ومتكررة، وفي كل الأوقات، ليلاً ونهاراً. خلال تلك الاقتحامات تُغلق متاجر البلدة ويُفرض طوق أمني، ويتم تفجير الأبواب، وإقامة الصلوات مع موسيقى صاخبة واستفزازية للسكان".

من جهته، يؤكد جبر الرجوب، مدير مكتب وزارة السياحة والآثار الفلسطينية في الخليل، لـ"العربي الجديد" أن المواقع الأثرية تتعرض لاقتحامات المستوطنين بهدف العبث بها وإقامة طقوس دينية، كما حدث في حرم الرامة وتل الرميدة، وهي ممارسات "ذات غايات احتلالية مغطاة بمظاهر دينية"، هدفها الحقيقي التوسع الاستيطاني.

هكذا يفقد المكان أمنه وأمانه، فضلاً عن الخسائر المتكررة التي يتعرض لها الموقع الأثري، التي تقوم وزارة السياحة والآثار الفلسطينية بإصلاحها في كل مرة. يتساءل الرجوب: "كيف يكون للموقع رواية يهودية مزعومة عن حقهم فيه، ثم يقومون بتدميره والعبث به؟".

يقول الدكتور نظمي الجعبة، أستاذ التاريخ في جامعة بيرزيت:" إن إسرائيل منذ العام 2010 سجّلت قائمة التراث الثقافي اليهودي، ومعظمها في الضفة الغربية، مشيرة إلى أن غالبية هذه المواقع "مذكورة في العهد القديم، لكننا لا نعرف مواقعها بشكل علمي"، مؤكداً أن تحديدها تم إما من قبل علماء آثار غربيين توراتيين أو من قبل سلطات الاحتلال نفسها.

يضيف الجعبة: "بغض النظر عن مدى أسطورية روايات العهد القديم، فقد تحول الارتباط بهذه المواقع من طابع تراثي إلى ديني، في إطار التحولات الجارية داخل المجتمع الإسرائيلي وخطة ضم الضفة الغربية تدريجياً". ويرى أننا أمام ظاهرة استخدمتها الحركة الصهيونية منذ تأسيسها، ويعبّر عنها اليوم بشكل فجّ رئيس الوزراء الإسرائيلي، عبر الانتقال من الفهم العلماني للمواقع التاريخية — حتى وإن كان بتزييف التاريخ — إلى ربطها بالدين لترسيخ رسالة مفادها استحالة التخلي عن الضفة الغربية لأنها تحتوي على كل ما هو "مقدس" في الديانة اليهودية.

بدوره، يوضح خبير التراث زيد الأزهري:" أن الاحتلال يستخدم المواقع الأثرية في الضفة الغربية لتنظيم احتفالات سياسية، كما يحدث في المدرج الروماني في بلدة سبسطية، حيث تُقام حفلات لتخريج ضباط الجيش، ومؤتمرات لوزراء اليمين لإطلاق مشاريعهم الاستيطانية التوسعية. كما تُنظَّم صلوات غير منظمة لمجموعات صغيرة من المستوطنين، تتخللها محاكاة لقصص توراتية، إذ يرتدي المشاركون أزياء تبدو تاريخية ويعيدون تمثيل رواياتهم المزعومة.

يعتبر الأزهري أن هذه الممارسات تمثل محاولة لخلق رواية بديلة وغير موجودة، تأتي ضمن مشروع الاستعمار الإحلالي عبر خلق هوية ثقافية تحل محل السكان الأصليين الفلسطينيين. ويؤكد أن كل الحفريات الأثرية، ومنها حفريات كاثلين كينيون في ثلاثينيات القرن الماضي في موقع سبسطية، نفت تماماً المزاعم الصهيونية حول "جذور" يهودية في تلك المواقع.

يضيف الأزهري أن هذه الاقتحامات تؤدي إلى حرمان سكان البلدة من الوصول إلى المنطقة الأثرية، بما في ذلك الأراضي الزراعية والمنازل القريبة منها، حيث تُنتهك حرماتها، لتصبح الحياة اليومية أكثر صعوبة وتفقد البلدة طابعها الطبيعي.

في مدينة القدس، تقوم مجموعات من المستوطنين بالغناء والرقص في ساحة الغزالي قرب باب الأسباط، المدخل الرئيسي للمسجد الأقصى وساحة اعتصام الفلسطينيين ضد ممارسات الاحتلال. وتتكثف هذه الهجمات خلال الأعياد اليهودية، وتتركز مضامين الأغاني العبرية حول ما يسمى "الهيكل" وإعادة بنائه، إلى جانب "النشيد الوطني الإسرائيلي".

يقول الدكتور عبد الله معروف، الباحث في الدراسات المقدسية:: "تحتل القدس مكانة متميزة في أجندة الجماعات المتطرفة في دولة الاحتلال، كما تعتبر المسجد الأقصى حجر الأساس في سرديات اهتمام هذه الجماعات الدينية اليهودية". ويوضح معروف أن المتطرفين يحاولون ربط أنفسهم بالمكان المقدس بشتى الوسائل، وعلى رأسها الترانيم الدينية التي يرددونها حول المسجد الأقصى المبارك. ويشير إلى ترنيمة محددة يركزون عليها تدعى (يبنى هميقداش) أي المعبد سيُبنى، في إشارة إلى "المعبد الثالث" المزعوم.

يضيف: "ينشد المستوطنون هذه الترنيمة أثناء اقتحاماتهم للمسجد الأقصى، أو خلال مسيرات بداية الشهر العبري في الليل قرب بواباته، وخاصة منطقة باب الأسباط لوجود مساحة واسعة للرقص خارجها".

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد