أميمة شمس الدين (صحيفة الديار)
غالبا ما تتناول وسائل الإعلام والخبراء الاقتصاديون ملفّ التعديات على الأملاك البحرية، بوصفه أحد أكبر أبواب الهدر التي تُكبّد خزينة الدولة خسائر فادحة، فضلا عن حرمان المواطن من حقّه الطبيعي والدستوري في الوصول إلى البحر.
فالدستور اللبناني والقوانين المرعية الإجراء، وخصوصا المرسوم الاشتراعي رقم 144 الصادر عام 1925، تنصّ بوضوح على أن الأملاك البحرية العامة، هي ملكٌ مشترك لا يجوز تمليكه أو استثماره إلا بإذنٍ واضح ووفق شروط محدّدة.
لكن الواقع على الشاطئ اللبناني يروي قصة مغايرة: من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، يحتلّ مستثمرون ومتَنفّذون مساحات شاسعة من الشاطئ، عبر منتجعاتٍ فاخرة ومطاعم خاصة ونوادٍ مغلقة.
ويقول خبراء إنّ معظم تراخيص استثمار الأملاك البحرية مُنحت بطرقٍ غير شفافة، وغالبًا ما كانت الرسوم التي تدفعها الدولة رمزية مقارنةً بالأرباح الطائلة التي يجنيها أصحاب المشاريع. وتشير بعض الدراسات إلى أن قيمة هذه التعديات تُقدَّر بمليارات الدولارات.
ووفق جمعية "نحن"، ارتفعت مساحة الأملاك العامة البحرية المعتدى عليها من نحو 5 ملايين متر مربّع عام 2012 إلى أكثر من 6.2 ملايين متر مربّع عام 2019، أي بزيادة تفوق 80% من مجمل الشاطئ اللبناني.
وتورد تقارير وجمعيات بيئية عدداً من أبرز المخالفات:
- فندق الموفنبيك: أُجبر رئيس التنظيم المدني على توقيع الموافقة تحت ضغط ميليشيات.
- أوتيل عين المريسة: شُقّ نفق يربط المبنى مباشرة بالبحر.
- البيت الحرفي: مشروع تابع لوزارة الشؤون الاجتماعية تحوّل إلى مطاعم، مع زاوية رمزية للحرفيين.
Eden Bay : من أكبر الفضائح قبل الانهيار، يعمل حتى اليوم بلا رخصة قانونية.
- الجامعة الإسلامية: بنت منشآت على الشاطئ مباشرة.
- إده ساندز – جبيل: تعدٍّ على نبعة مياه عامة وعدم التراجع عن مجراها.
- الروشة: معظم المقاهي والمطاعم مخالفة لقانون البيئة 444.
كما تقدّمت جمعية "نحن" بدعوى ضدّ الإعلامية راغدة درغام لبنائها فيلا فوق بحر كفرعبيدا، وأخرى ضدّ الإعلامية رولا بهنام في عمشيت، لتشييدها مشروع فوق مغارة "فقمة الراهب" دون دراسة للأثر البيئي.
في المقابل، يؤكد المدير العام للنقل البري والبحري في وزارة الأشغال الدكتور أحمد تامر لـ"الديار" أن كل الأسماء الواردة سَوّت أوضاع إشغالاتها ، وفق القانون وتدفع الرسوم السنوية المستحقة، موضحًا أن جميع المخالفات القائمة تعود إلى ما قبل عام 1994( مع العلم ان عدد كبير من المخالفات التي ذكراها حصلت في السنوات الخمس الأخيرة وبعضها قيد الانشاء -فيلا رولان بهنام مثالاً).
وقال إن القانون رقم 64 لعام 2017 نظّم تسوية هذه المخالفات وحدّد آليات دفع الرسوم، ما أدّى إلى إدخال نحو 30 مليون دولار سنويًا إلى خزينة الدولة.
وكشف أن الوزارة تعمل بتوجيهات الوزير فايز رسامني على إعداد دفتر شروط لتكليف شركة متخصّصة بإجراء مسح جديد للشاطئ اللبناني وتقييم المساحات المستثمَرة لتحديد الرسوم العادلة بحسب نوعية الاستخدام، سواء كان سياحيًا أو صناعيًا أو نفطيًا.
غير أنّ ما يقوله المدير العام للنقل البري والبحري الدكتور أحمد تامر، لا يعكس تماماً واقع الشاطئ اللبناني، إذ تُظهر الوقائع الميدانية والمستندات الرسمية، وجود تناقض واضح بين التصريحات والحقائق.
ففي حين يؤكّد تامر أن أي تعدٍّ على الأملاك البحرية بعد عام 2017 بات "شبه مستحيل" بفعل الرقابة الصارمة، ما تزال التعديات تتكاثر على طول الساحل، وتشهد مناطق ككفرعبيدا وعمشيت والدامور والرملة البيضاء منشآت جديدة أُقيمت بعد هذا التاريخ. هذه المشاريع موثّقة من قبل جمعيات بيئية على رأسها "نحن" و"تير ليبان"، اللتان رفعتا دعاوى قضائية بحق أصحابها، ما يدحض مزاعم غياب المخالفات الحديثة ويكشف ثغرات الرقابة الرسمية.
أما القول بأن القضاء يتحرك بسرعة في مواجهة التعديات، فهو أيضاً موضع شكّ، إذ لم يُسجّل خلال السنوات الأخيرة صدور أي حكم قضائي نُفّذ فعلياً بإزالة مخالفات كبرى، رغم وجود قرارات صادرة عن مجلس شورى الدولة في قضايا برزت في الاعلام. وغالباً ما تبقى الملفات عالقة أو مؤجلة بذريعة انتظار التسويات أو الموازنات، ما يجعل العدالة بطيئة ومنتقاة، تخضع أحياناً للتوازنات السياسية لا لسلطة القانون.
ويذهب تامر إلى نفي وجود أي تغطية سياسية أو استثناءات، إلا أن تاريخ هذا الملف يروي عكس ذلك تماماً، إذ إن غالبية المشاريع الكبرى التي تشغل الأملاك البحرية ترتبط بشخصيات سياسية أو حزبية نافذة. ويكفي التذكير بأن مشاريع مثل «إده ساندز» أو «الموفنبيك» أو حتى مؤسسات تابعة لجهات رسمية ووزارية ما زالت قائمة رغم مخالفاتها المثبتة، ما يجعل الادعاء بانتفاء الغطاء السياسي كلاماً إنشائياً لا يستند إلى وقائع.
أما حديثه عن دراسة الوزارة إصدار قانون جديد لتسوية الحالات التي تلت عام 1994، فيكشف توجهاً خطيراً نحو تحويل المخالفة إلى مورد مالي للدولة بدلاً من اعتبارها انتهاكاً للقانون. فبدل تطبيق القوانين النافذة التي تفرض إزالة التعديات، يجري البحث عن مضاعفة الرسوم والاكتفاء بالغرامات، ما يعني عملياً تشريع الأمر الواقع ومكافأة من استباح الملك العام.
ويُضاف إلى ذلك حديث تامر عن "المسابح الشعبية" التي يُفترض أن تتيح للمواطنين حقهم في الوصول إلى البحر، فيما الواقع يشير إلى غياب أي مشروع فعلي من هذا النوع. فالشواطئ العامة في لبنان تُعدّ على أصابع اليد الواحدة، وغالبها في حالة إهمال أو صراع إداري بين البلديات والجهات الخاصة. أما الغالبية الساحقة من الساحل فمحجوبة عن المواطنين وتُدار كممتلكات خاصة تحت مسميات الاستثمار السياحي.