شانتال عاصي (صحيفة الديار)
يشهد لبنان في الأشهر الأخيرة واحدة من أخطر الأزمات البيئية في تاريخه الحديث، حيث تتعرض أحراجه ومساحاته الخضراء إلى موجة جفاف حادة، وحرارة غير مسبوقة تجاوزت المعدلات الموسمية بنحو سبع درجات مئوية، ما أدى إلى تفاقم ظاهرة اليباس الجماعي للأشجار، في مناطق واسعة من الشمال إلى الجنوب.
هذا المشهد الكارثي لم يعد مجرد تحذير من خبراء البيئة، بل أصبح واقعاً يهدد التنوع الحيوي والنظام البيئي اللبناني بأكمله.
حرارة قياسية وجفاف غير مسبوق
بحسب تقارير مصلحة الأرصاد الجوية وخبراء المناخ، فإن معدلات الحرارة في لبنان خلال الأشهر الماضية، تخطّت المعدلات الموسمية الطبيعية بنحو 6 إلى 7 درجات مئوية، وهي زيادة غير مسبوقة انعكست مباشرة على التوازن البيئي ومستويات الرطوبة في التربة. هذه الحرارة المرتفعة، المترافقة مع تراجعٍ غير طبيعي في كميات الأمطار، أدت إلى حالة من الجفاف الشديد في معظم المناطق اللبنانية.
فوفقا للبيانات المناخية، شهد لبنان العام الماضي أدنى نسبة هطل مطري منذ 80 عاما، أما هذا العام فالوضع أكثر خطورة، إذ لم تتجاوز نسبة المتساقطات حتى الآن 10 إلى 20% من المعدلات العامة. فقد بلغ المعدل الوسطي للأمطار ما بين 70 و80 ملم فقط، فيما لم يسقط على الساحل سوى 8 إلى 20 ملم، أي أقل بكثير من الكميات المسجّلة في الفترة نفسها من العام الماضي التي بلغت نحو 30 ملم.
هذا النقص الحاد في المياه جعل التربة شديدة الجفاف، وغير قادرة على الاحتفاظ بالرطوبة، مما سرّع وتيرة ذبول النباتات وجفاف الأشجار، لا سيما في المناطق الجبلية التي تعتمد على الأمطار لتجديد مصادرها المائية. ومع استمرار ارتفاع درجات الحرارة، دون أي مؤشرات لهطلات مطرية قريبة، تبدو أحراج لبنان مقبلة على موسم قاسٍ آخر، يهدد الغطاء الأخضر ويزيد من خطر الحرائق والانهيار البيئي.
الصنوبر والسنديان والعرعر أول الضحايا
تُعدّ أشجار الصنوبر والسنديان والعرعر من أكثر الأنواع التي دفعت الثمن الباهظ للجفاف المستمر، وارتفاع درجات الحرارة في لبنان. فهذه الأنواع التي شكّلت على مدى قرون العمود الفقري للنظام البيئي اللبناني، لم تعد قادرة على مقاومة الظروف المناخية القاسية، التي تجاوزت قدرتها الطبيعية على التكيّف.
تقول الدراسات البيئية إن الصنوبر، الذي يرمز إلى الغابات الساحلية والمتوسطة الارتفاع، يحتاج إلى توازن دقيق بين الرطوبة ودرجات الحرارة، كي يحافظ على نشاطه الحيوي. ومع الانحباس المطري وازدياد تبخر المياه من التربة، بدأت الأشجار تفقد قدرتها على امتصاص الماء من الطبقات العميقة. هذا النقص في الرطوبة أدى إلى تلف الجذور السطحية وتيبّس الأوراق والإبر الخضراء، ما جعل مساحات واسعة من الغابات الصنوبرية تتحول إلى كتل يابسة عرضة للاشتعال عند أي شرارة.
أما السنديان الذي يهيمن على الغابات الجبلية الممتدة من جبل لبنان إلى الشمال والبقاع الغربي، فتعرض هو الآخر لضغط بيئي قاسٍ. فمع ارتفاع درجات الحرارة بمعدل يفوق 7 درجات عن المعدل الموسمي، ازدادت معدلات النتح وفقدان الماء من الأوراق، ما تسبب في اصفرار الأوراق وتساقطها المبكر، لتبدو الأشجار كأنها تمرّ بموسم خريف دائم.
ويُضاف إلى ذلك أن أشجار العرعر في المرتفعات العالية، المعروفة ببطىء نموّها وحساسيتها الشديدة لتغيّر الرطوبة، بدأت تفقد تدريجياً قدرتها على التجدد الطبيعي. فقد رُصدت في بعض المناطق، مثل جرود الضنية ومرتفعات عكار، مساحات واسعة من العرعر المتيبس الذي لم يتمكّن من الصمود أمام شحّ المياه المتواصل.
الأخطر من كل ذلك هو أن الغابات الصنوبرية خسرت أكثر من 30% من غطائها الأخضر خلال الصيف الماضي فقط، وفق تقديرات جمعيات بيئية محلية، ما يُنذر بانهيار بيئي طويل الأمد إذا لم تُتخذ إجراءات عاجلة لإعادة تأهيل الغطاء الحرجي. فاختفاء هذه الأنواع لا يعني فقط فقدان المنظر الطبيعي، بل أيضاً تدهور التربة، انقراض أنواع حيوانية تعتمد عليها للغذاء والمأوى، وتراجع القدرة على امتصاص الكربون وتنقية الهواء.
إن استمرار هذا المسار دون تدخل فعّال قد يُحوّل الغابات اللبنانية من رئة خضراء إلى مناطق شبه قاحلة في غضون سنوات قليلة، ما يستدعي إطلاق خطط إنقاذ بيئية عاجلة ترتكز على إعادة التشجير، ترشيد استهلاك المياه، ومراقبة صارمة لأي أنشطة بشرية تزيد من هشاشة النظام البيئي.
غياب إدارة مستدامة للموارد المائية
لا يمكن فصل ما يحدث اليوم في غابات لبنان عن الاحتباس الحراري العالمي والتغير المناخي المتسارع، اللذين يتركان بصماتهما الواضحة على منطقة شرق المتوسط. فقد أصبحت موجات الحر الطويلة والجفاف الممتد سمةً شبه دائمة للمواسم الأخيرة، مع تسجيل درجات حرارة تتجاوز المعدلات الموسمية بأكثر من سبع درجات مئوية، وتراجع كميات الأمطار إلى أدنى مستوياتها منذ عقود. إلا أن ما يجعل الأزمة في لبنان أكثر خطورة هو تداخل العوامل المناخية مع السلوك البشري غير المستدام، الذي حوّل الغابات اللبنانية إلى بيئة شديدة الهشاشة أمام أي اضطراب مناخي.
فعلى مدى سنوات، أدّت عمليات قطع الأشجار العشوائية إلى إضعاف الغطاء النباتي الطبيعي الذي يشكّل خط الدفاع الأول ضد التصحّر والانجراف. ومع كل شجرة تُقتلع، تفقد التربة قدرتها على الاحتفاظ بالرطوبة، فتزداد جفافاً وتصبح أقل خصوبة، ما يجعل إعادة تجدد الحياة النباتية فيها مهمة شبه مستحيلة.
إلى جانب ذلك، جاءت الحرائق المتكررة التي تندلع كل صيف لتقضي على ما تبقّى من الغابات الطبيعية. فالكثير من هذه الحرائق تنشب بسبب الإهمال أو النشاط البشري المباشر، وغالباً ما تمرّ دون خطط إعادة تشجير أو ترميم للمنطقة المتضرّرة، مما يُعيد الغابات إلى نقطة الصفر عاماً بعد عام. وتُظهر الإحصاءات أن بعض المناطق التي احترقت قبل عقدٍ من الزمن لم تستعد حتى اليوم سوى جزءٍ ضئيل من غطائها الأخضر، ما يعني أن النُظم البيئية تفقد توازنها تدريجياً.
كما أن غياب إدارة مستدامة للموارد المائية فاقم من الأزمة بشكل حاد. فمع ندرة المتساقطات وتراجع معدلات الأمطار إلى ما بين 10 و20% فقط من المعدلات العامة، لم تُعتمد أي سياسات فعالة لتخزين مياه الأمطار أو تنظيم استخدامها في الزراعة والتشجير. وهكذا، وجدت الأشجار نفسها في مواجهة عطشٍ دائم، فيما تجف الينابيع والأنهار الصغيرة التي كانت تغذي النظام البيئي على مدار السنة.
نتيجةً لذلك، أصبحت البيئة اللبنانية هشةً أمام أي موجة حر أو موسم جفاف، وتحوّلت الغابات من مصدر حياة وتوازن بيئي إلى أراضٍ جافة مهددة بالتصحر والانقراض التدريجي. ومع استمرار الإهمال والتغير المناخي، يُخشى أن يخسر لبنان واحدة من أهم ثرواته الطبيعية، التي طالما شكّلت جزءاً من هويته الجغرافية والبيئية.
خطة وطنية شاملة
أخيراً، كارثة اليباس التي تهز أحراج لبنان اليوم ليست مجرد ظاهرة طبيعية عابرة، بل هي جرس إنذار حقيقي يقرع بشدة معلناً دخول البلاد مرحلة مناخية حرجة. فما نشهده من تغيّر في المشهد البيئي، بدءاً من اصفرار الغابات الخضراء، وصولاً إلى تشقق التربة وذبول الأشجار، هو انعكاس مباشر لسنوات من الإهمال البيئي وتراكم آثار التغير المناخي العالمي. ومع استمرار ارتفاع درجات الحرارة بمعدلات تفوق سبع درجات فوق المعدل الموسمي وتراجع كميات الأمطار إلى أدنى مستوياتها منذ ثمانين عاماً، يُمكن القول إن لبنان يقف على حافة أزمة بيئية غير مسبوقة.
فالمطلوب خطة وطنية شاملة تبدأ من إعادة تشجير الأحراج المتضررة، مروراً بإدارة مستدامة للمياه، وصولاً إلى وضع سياسات مناخية تواكب التغيرات العالمية.