شهدت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) سلسلة استقالات بسبب فيلم وثائقي عن أحداث الفتنة في الكونغرس، في 6 كانون الثاني/يناير 2020، واتهامات بتحريف خطاب ترامب لأنصاره الداعي لهم للتظاهر، إلى جانب تغطيتها لحرب غزة.
هذا؛ وأعلن تيم ديفي، رئيس الهيئة أنه استقال بقرار ذاتي، فيما رحلت رئيسة الأخبار في الهيئة. ويرى المراقبون من الداخل أن استقالة ديفي “تبدو كانقلاب” حققه أعداء “بي بي سي”. وفي تقرير أعده مايكل سفاج المحرر الإعلامي في صحيفة “الغارديان”، قال إن" “الانقلاب” حدث بعدما قام مستشار سابق لـ”بي بي سي” باتهامها بالتحيز المنظم والخطير في تغطيتها لأحداث الفتنة في الكونغرس وغزة وحقوق المثليين.
وفي إعلان أثار صدمة داخل المؤسسة، قال ديفي إن رحيله كان “قراري بالكامل”، ويأتي ذلك في الوقت الذي تستعد فيه “بي بي سي” للاعتذار عن طريقة تحرير خطاب ترامب. كما استقالت ديبورا تورنيس رئيسة قسم الأخبار في “بي بي سي”. ووصفت مصادر داخل تلك الإدارة حالًا من الفزع إزاء رحيل تورنيس، وقال أحدهم: “يبدو الأمر وكأنه انقلاب، هذا نتيجة حملة شنها أعداء سياسيون لـ(بي بي سي)”.
تعلق الصحيفة أن الاستقالات جاءت في لحظة حاسمة للمؤسسة التي تحضّر لمحادثات مع الحكومة بشأن مستقبلها وتمويلها. ويجري الآن البحث عن اثنين من أكبر المناصب في وسائل الإعلام البريطانية. ومن المتوقع أيضًا أن يعتذر رئيس مجلس إدارة “بي بي سي” سمير شاه عن طريقة تحرير خطاب دونالد ترامب لبرنامج “بانوراما”.
وكانت لجنة الثقافة والإعلام والرياضة في مجلس العموم قد حددت يوم الإثنين موعدًا نهائيًا لـ”بي بي سي” للرد على ادعاءات مايكل بريسكوت، المستشار الخارجي المستقل السابق للجنة المبادئ التوجيهية والمعايير التحريرية في “بي بي سي”. وقد ترك هذا المنصب في الصيف. وانتقد بريسكوت طريقة عرض خطاب ترامب في نسخة من برنامج “بانوراما”، الذي جمع مقاطع من خطاب ألقاه الرئيس الأمريكي في 6 كانون الثاني/يناير 2021. ويشير التحرير إلى أن ترامب قال للحشد: “سنذهب إلى مبنى الكابيتول وسأكون هناك معكم، وسنقاتل. سنقاتل بشراسة”.
أخذت الكلمات من مقاطع من خطابه بفارق ساعة تقريبًا. وقد أدت هذه الحادثة إلى انتقادات لـ”بي بي سي” من كارولين ليفيت السكرتيرة الصحافية لترامب التي وصفت المؤسسة، في نهاية هذا الأسبوع، بأنها “أخبار كاذبة 100%” و”آلة دعاية”. وبدت ليفيت وهي تحتفل بالاستقالات مشيرة على منصة “إكس” إلى شكواها بشأن تعامل “بي بي سي” مع خطاب الرئيس الأمريكي.
كما نشر ترامب على منصته “تروث سوشيال” أن “أشخاصًا غير نزيهين للغاية” حاولوا “التدخل في الانتخابات الرئاسية”، مضيفًا: “وعلاوة على ذلك، فهم من دولة أجنبية، دولة يعتبرها الكثيرون حليفنا الأول. يا له من أمر مروّع للديمقراطية!”. وكتب ديفي، في مذكرة للموظفين، أنه حظي بدعم مجلس إدارة “بي بي سي” ورئيسه، سمير شاه، طوال فترة استقالته. ومع ذلك، أشار إلى أن الاتهامات الحالية ساهمت في قراره. وقال: “مثل جميع المؤسسات العامة، “بي بي سي” ليست مثالية، ويجب أن نتحلى دائمًا بالانفتاح والشفافية والمساءلة”.
يأتي رحيل ديفي بعد عام صعب لـ”بي بي سي” واجهت فيه انتقادات بسبب تعليقات مقدم برنامجها الرياضي غاري لينيكر عن حرب غزة، والبث المباشر لحفل ثنائي الراب “بانك بوب فيلان” في مهرجان غلاستونبري، والانتقادات بسبب فيلم وثائقي عن غزة.
قالت صحيفة “الغارديان” إن رحيل ديفي وتورنيس هو محاولة لحماية “بي بي سي” من المزيد من الهجمات في أعقاب انتقادات بريسكوت، التي وجهها في رسالة إلى مجلس إدارة الهيئة.
كما أدانت رسالة بريسكوت، التي وصلت إلى صحيفة “ديلي تلغراف”، “بي بي سي العربية” لاستضافتها مساهمين عبّروا عن آراء معادية للسامية. وتضمنت الرسالة آراء أحد المساهمين الذي سبق أن كتب على الإنترنت بأنه يجب حرق اليهود “كما فعل هتلر”. وكانت “بي بي سي” قد ذكرت سابقًا أنه ما كان ينبغي أن يظهر بهذه الطريقة. ووصف مساهم مميز آخر اليهود على الإنترنت بأنهم “شياطين”. وقالت “بي بي سي”، في أيار/مايو، إنها منعت هذا الشخص من المساهمة مستقبلًا.
علّقت جين مارتينسون، في مقال بصحيفة “الغارديان”، قائلة إن “بي بي سي” واجهت حملة منظمة وهجمات بدوافع سياسية، واعتبرت الاستقالات الأخيرة بأنها بمثابة إذعان لها. وقالت مارتينسون إنه كان على “بي بي سي” الوقوف أمام حملات “تلغراف” وترامب والمحافظين، لكن الاستقالات أعطت أعداءها فكرة عما يحتاجونه لتحقيق أهدافهم. وأضافت أن استقالة ديفي وتورنيس تعطي فكرة أن المطالبة بـ”الدماء” تحقق نتائج. وقالت إن المذكرة التي كتبها بريسكوت في 19 صفحة وسُرّبت إلى “تلغراف”، فيها اتهامات خطيرة لبرنامج “بانوراما” عن ترامب وأحداث 6 كانون الثاني/يناير، واتهامات لـ”بي بي سي عربي” بالتحيز للآراء المؤيدة لـ “حماس” وحقوق المثليين.
بعيدًا عن إخفاقات “بي بي سي” في التغطية وعجزها المحيّر، أو عدم رغبتها في الدفاع عن نفسها، خلال الأسبوع الماضي، إلا أن هذا الخلاف يخفي السياق الذي يفسر جوهر المسألة، وهي الحملة السياسية ضد “بي بي سي”، والتي يمكن أن تكون مثالًا على كيفية إرباك وتقويض هذا النوع من الصحافة التي تسعى، على أقل تقدير، إلى الحياد في بحر من التضليل والتشويه، على حد قول مارتينسون.
ورغم تأكيد بريسكوت على أنه ليس عضوًا في أي حزب، إلا أن مذكرته المكونة من 8000 كلمة، والتي تنتقد تغطية “بي بي سي”، هي جزء من كتاب “حرب الثقافة المناهضة للتقدمية”. وقالت الكاتبة إن عمل بريسكوت في صحيفة “صاندي تايمز” كمراسل سياسي بارز ربما ساعده أيضًا على التركيز الدقيق على قضيتين تحديدًا، أحدثتا انقسامًا حتى بين أكبر داعمي “بي بي سي”: تقاريرها عن غزة، وتحديدًا خدمة “بي بي سي العربية”- التي ازدادت أهميتها مؤخرًا ليس فقط بسبب الحرب، ولكن أيضًا بسبب تخفيضات أخبار “بي بي سي”- التي أثارت حفيظة الكثيرين من اليهود في بريطانيا، بينما أدى تعامل “بي بي سي” مع حقوق المتحولين جنسيًا إلى انقسام حتى بين موظفيها.