أوراق سياسية

مغادرة 80 ألفًا في عام واحد: "إسرائيل" تتلمّس "إنذارًا وجوديًا"

post-img

يحيى دبوق (الأخبار)

للمرّة الأولى منذ قيامها، لم تَعُد "إسرائيل" تعتمد في نموّها السكّاني على الهجرة، بل على الولادات وحدها، في حين تحوّلت الهجرة العكسية الدائمة إلى ظاهرة واسعة، لا يبدو أنها ستنحسر قريبًا. ففي عام 2024، سجّل الكيان "خسارة صافية" في رأس المال البشري، مع مغادرة 82,700 "إسرائيلي"، وعودة 23,800 منهم فقط. واللافت أن هذه الموجة لا تطال الفئات المهمّشة، بل تمتدّ إلى "القلب النابض للاقتصاد"، من شبان متعلّمين وخرّيجي جامعات، يعملون في التكنولوجيا والطب والتعليم، ويسكنون في "مراكز الازدهار"، في حين أن دوافعهم لا تقتصر على البحث عن فرص أفضل، بل تشمل تآكل الثقة في المؤسسات، وعدم اليقين الأمني، وفقدان الأمل في استقرار "الدولة" على المدى الطويل.

على أن المعطيات "الإسرائيلية" في هذا الصدد لا تتعلّق بالعامين الحالي أو السابق فحسب، بل ترجع أيضًا إلى عام 2023 وما قبله، أي إلى ما قبل اندلاع الحرب "الإسرائيلية" على قطاع غزّة، في تشرين الأول من العام المذكور. وسجّل "المكتب المركزي للإحصاء" "خسارات صافية" في عدد الإسرائيليين المغادرين من مواليد الداخل، وكذلك المغادرين ممَّن لم يولدوا في "إسرائيل" ولكنهم هاجروا إليها، وهو ما يُعتبر أول عجز مزدوج في تاريخ الكيان: سواء في عدد القادمين الجُدد بموجب "قانون العودة" لليهود، أو في ميزان الإسرائيليين من السكان، الذين غادروا ولا ينوون العودة.

وبحسب بيانات المكتب، غادر "إسرائيل" في عام 2024، 82,700 شخص، عاد منهم 23,800 فقط، ما يشكّل "خسارة صافية" بنحو 58,900 "إسرائيلي". وشهد العام نفسه، تراجعًا في أعداد المهاجرين الجدد، مع وصول نحو 32,800 مهاجر فقط، أي أقل بـ15 ألفًا مقارنة بعام 2023. ورغم ارتفاع إجمالي السكان إلى أكثر من 10 ملايين، إلا أن نحو 60% من هذه الزيادة (112 ألفًا من أصل 181 ألفًا) تعود إلى الولادات وحدها؛ ما يعني أنه للمرّة الأولى منذ تأسيسها، تعتمد "إسرائيل" في نموّها السكّاني على الولادات حصرًا، وليس على الهجرة إليها.

في الإطار نفسه، وفي تقرير حصري نشره موقع "كالكاليست" العبري (18 تموز 2024)، استند إلى معطيات "المكتب الوطني للإحصاء"، يَظهر أن انهيار الثقة حدث على مرحلتَين:

 - المرحلة الأولى، مرتبطة بوضع المؤسسات ونظام الحكم ومحاولة الحكومة الحالية تغييره، في ما وصفه معارضوها بـ"الانقلاب المؤسساتي". ففي صيف 2023 (تموز - أيلول)، ارتفعت الهجرة من "إسرائيل" بنسبة 51% مقارنة بالفترة نفسها من عام 2022 (من 14,600 إلى 22,000)، وذلك في ذروة الاصطفاف والصراع السياسي الداخلي على ما سُمّي "الإصلاحات القضائية".

 - المرحلة الثانية أو المرحلة الأمنية، هي التي بدأت عقب اندلاع الحرب، وسُجلت خلالها، في تشرين الأول 2023 وحده، مغادرة 12,300 "إسرائيلي" بشكل نهائي، أي بزيادة 400% مقارنة بتشرين الأول 2022. ويعني هذا التسلسل الزمني، أن الهجرة ازدادت أولًا نتيجة الخشية على النظام والاستقرار السياسي والاجتماعي، قبل أن تكون مبنيّّة على ظروف الحرب والأمن الشخصي.

وتدعم ذلك التفسير، معطيات وردت في تقرير "القناة الـ12" العبرية (18 تموز 2024)، الذي حدّد ذروة انشغال الإسرائيليين بالعمل على توطّنهم في الخارج، بشباط 2023، حين سُجّلت مراجعات هجرة وصلت إلى أكثر من 63 ألفًا خلال ذروة الاحتجاجات والتظاهرات ضدّ "الإصلاحات القضائية"، أي قبل ثمانية أشهر من اندلاع الحرب. وجاء التقرير الذي نشرته صحيفة "ذا ماركر" (22 تشرين الأول 2024) ليؤكد تلك التقديرات؛ إذ إن عدد المغادرين في 2023 بلغ 55,300 شخص، أي بزيادة 46.4% عن العام الذي سبقه، في ما يُلحظ أن البيانات الأوّلية لسنة 2024 تُظهر أن الارتفاع لم يتوقّف: ففي الأشهر السبعة الأولى وحدها (كانون الثاني - تموز)، غادر 40,600 "إسرائيلي"، أي بزيادة قدْرها 58.9% مقارنة بالفترة نفسها من عام 2023. ويربط التقرير نفسه هذه الظاهرة صراحةً بـ"الانقلاب القضائي" الذي قادته الحكومة الحالية، ووزير العدل فيها يريف ليفين، والذي أرعب كثيرين، ودفعهم إلى ترك "إسرائيل" نهائيًّا.

والواقع أن هذا الاستنتاج ليس تحليلًا صحافيًّا، بل مستمدّ من بيانات رسمية إحصائية وتقديرات اتّجاهات الهجرة التي بدأت تتصاعد اعتبارًا من أوائل عام 2023، أي بعد أسابيع على بدء "الانقلاب القضائي"، قبل أن يأتي التصعيد الأمني ويحوّل القلق إلى قرار نهائي بالهجرة. وفي تقارير عبرية (""يديعوت أحرونوت"" - 27 كانون الثاني 2025)، يرد، على سبيل المثال، أن عدد الزيارات "الإسرائيلية" لمواقع الهجرة الكندية قفز إلى 300 ألف، أي بزيادة قدْرها 1000%، مقارنة بفترة ما قبل الحرب. وللمرّة الأولى، تعترف دولة غربية من العالم الأول بأن ما يدفع الإسرائيليين إلى الرحيل هو حالة طوارئ أمنية؛ إذ فتحت كندا مسارًا خاصًا للإسرائيليين، يشمل تأشيرة عمل لمدّة ثلاث سنوات، من دون مؤهلات أكاديمية أو مهنية، شرط إثبات تسبُّب الحرب بإخلاء الدور السكنية أو إصابة جسدية/ نفسية، أو خوف معتدّ به على الأمن الشخصي.

ويُعمّق التقرير من قلق المراقبين، عبر كشْفه أن 31% من المغادرين في 2023، كانوا مهاجرين جددًا قادمين إلى "إسرائيل" في السنة نفسها - غالبًا من دول الاتحاد السوفياتي السابق وتحديدًا ممَّن فرّوا من الحرب في أوكرانيا -، لكنّهم اختاروا المغادرة سريعًا، ما يوحي بأن "إسرائيل" كملاذ، لم تَعُد تفي بالغرض حتّى بالنسبة إلى أولئك الأكثر استعجالًا في البحث عن ملجأ آمن. وتؤكد ذلك حقيقة أنه من أصل 55,300 غادروا "إسرائيل" في 2022، فإن 27,500 (أي 50%) منهم هم من المهاجرين الجدد إليها، و62% غادروا في السنة نفسها التي وصلوا فيها. ويعني ما تقدّم أن "إسرائيل" لم تفشل فقط في الاحتفاظ بمن هم "مواطنوها" منذ سنوات طويلة، بل فشلت حتّى في إقناع القادمين الجدد بالبقاء فيها لعام واحد فقط.

كذلك، يُظهر تقرير صادر عن "مركز البحوث والمعلومات" في ""الكنيست"" (20 تشرين الأول 2025)، بعدًا آخر مرتبطًا بالفئة العمرية والجغرافية للهجرة؛ إذ إن 40% من المغادرين نهائيًّا في 2022 - 2023 هم من الفئة العمرية الشابة (20 إلى 30 عامًا)، أي إن خسارة "إسرائيل" ديموغرافيًّا لم تكن من المتقاعدين والمسنّين، بل من القوّة العاملة والجيل الأكثر إنتاجية. وبحسب التقرير نفسه، الذي وصفت وسائل الإعلام العبرية أرقامه بـ"الصادمة"، فإن مدنًا من مثل "هرتسليا" و"رمات هشارون" - حيث مراكز صناعة الـ"هايتك" والتكنولوجيا ومقار الآلاف من الشركات الناشئة -، شهدت أعلى معدّلات مغادرة، علمًا أنها من المدن التي يُعدّ سكّانها من ذوي الدخل المرتفع. ويعني ذلك أن معظم المغادرين ليسوا مهمّشين، بل مهندسون وأكاديميون وأطباء وروّاد أعمال وخبراء تكنولوجيا، وأكثرهم يمتلكون كلّ مقوّمات البقاء، إلّا أنهم اختاروا الرحيل، لأن المعادلة، كما يرد في التعبيرات العبرية، (صحيفة "معاريف") بدأت تنهار: ارتفاع المعيشة وتكاليف السكن والتعليم والرعاية الصحية، في مقابل انخفاض جودة الحياة والاستقرار والأمن الشخصي والحروب، وكذلك تردّي نظام الحكم والعقد الاجتماعي والمساواة بين الإسرائيليين. ويشير التقرير إلى أن الوجهات المفضّلة للإسرائيليين المغادرين، هي الولايات المتحدة وكندا وألمانيا وأستراليا - أي دول ذات اقتصادات مفتوحة واستقرار مؤسساتي وأنظمة حكم ثابتة مع ثقة في أدائها - ؛ ما يعني أن الهجرة "الإسرائيلية" المعاكسة ليست طارئة، بل هي انتقال إستراتيجي لمن يمتلكون رأس المال والخبرات، وهم في المجمل الثقل الرئيسي للاقتصاد.

وفي محاولة يائسة لوقف النزيف، أعلنت وزارة المالية "الإسرائيلية"، في السادس من الشهر الجاري، عن رزمة تحفيز ضريبي للقادمين الجدد، تشمل صفر ضرائب لعامين، مع تصاعد تدريجي في العبء الضريبي حتّى عام 2030، ليتساوى المهاجر الجديد مع الآخرين. لكن، في الوقت الذي تطلَق فيه هذه الرزمة، تُسجّل مغادرة 75 ألف "إسرائيلي" سنويًّا، منهم 11 ألفًا من تل أبيب، وآلاف من "هرتسليا" ورامات هشارون. ومن بين هؤلاء المغادرين، هناك 53.7% من الحاصلين على 13 سنة تعليم وأكثر (أي تعليم جامعي أو أعلى)، كما إن 26% منهم حاصلون على شهادة أكاديمية كاملة.

على أن المعطى الأكثر إقلاقًا في تل أبيب، هو الاتّجاه الثابت والمتنامي للظاهرة؛ ففي الأشهر التسعة الأولى من 2025، لم تنعكس الاتّجاهات أو تتراجع. وبحسب الأرقام، فإن نحو 56 ألف "إسرائيلي" غادروا حتّى شهر أيلول الماضي، أي بوتيرة سنوية تصل إلى 75 ألفًا، وهذا لا يوحي بانحسار الظاهرة، بل باستقرارها كواقع جديد. وفي دولة بُني اقتصادها على رأس المال البشري والمعرفة، لا تمثّل هذه الهجرة المعاكسة مجرّد أزمة ديموغرافية عابرة، بل هي "إنذار وجودي". ووفقًا لتعبيرات عبرية، فإن "الهجرة المعاكسة هي إشارة إلى تغيير مفهوم الوطن ومحدّداته في الوعي الجمعي لدى الإسرائيليين".
 

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد