اوراق خاصة

القواعد الأمريكيّة في العالم.. الاحتلال المقنّع

post-img

معتز منصور/ باحث سياسي

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؛ تحولت القواعد العسكرية الأمريكيّة إلى شبكة عابرة للقارات تشبه، في امتدادها الجغرافي، شبكة الأعصاب في الجسد الإمبراطوري.

تنتشر، اليوم، أكثر من 750 قاعدة أمريكية، في نحو 80 دولة، من اليابان وكوريا الجنوبية إلى ألمانيا وإيطاليا ودول الخليج، تحت ذرائع متغيرة وثابتة في آن؛ وهو محاربة الارهاب ومواجهة الشيوعية وحماية الديمقراطية أو ضمان الاستقرار الإقليمي.

لكن خلف هذه الشعارات كلها تختبئ وظيفة واحدة؛ وهي تثبيت النفوذ الأمريكي في محيطه الدولي، ومنع تشكّل أي توازن جديد خارج منظومة الهيمنة.

الذرائع العسكرية.. حكاية تسويغ الوجود

الذرائع لم تكن يومًا بريئة؛ ففي كل مرحلة تاريخية كانت واشنطن تبتكر سببًا أخلاقيًا لتسويغ وجودها العسكري الدائم:

1.    في الحرب الباردة؛ كانت القواعد حواجزَ أمام الخطر الأحمر.
2.    بعد سقوط الاتحاد السوفياتي السابق؛ تحوّلت إلى حصون في الحرب على "الإرهاب".
3.    أما اليوم؛ فهي تعيد تأهيلها في إطار الصراع مع الصين وروسيا، أو تحت شعار "حماية الممرات البحرية".

النتيجة واحدة وهي القاعدة تبقى والعدو يتبدّل.

تبعية الدول المضيفة

لكن أخطر ما في هذه القواعد، لا ينحصر في وجودها الفيزيائي؛ بل ما تولّده من تبعية سياسية وأمنية في الدول المضيفة؛ حيث تتشكّل تدريجيا دوائر قرار محلية تعيد إنتاج مصالح واشنطن داخل النظام السياسي نفسه. وبذلك يتحوّل الوجود العسكري الأمريكي إلى نفوذ غير مرئي: في الاقتصاد، في الإعلام، في ثقافة الخوف من فقدان الحماية الأمريكيّة.

هكذا تتحول الدولة المضيفة من شريك سيادي إلى تابع؛ ضمن منظومة الأمن الأمريكي الأوسع، حتى وإن بدت مستقلة شكلاً.

أمثلة تطبيقية في العالم

1.    في آسيا؛ مثلاً، جعلت القواعد من اليابان وكوريا الجنوبية منصتين ديمومتين لاحتواء الصين؛ مع أنّها وجدت أصلا لردع الشيوعية في خمسينيات القرن الماضي.
2.    في أوروبا استُخدمت القواعد الأمريكيّة بعد الحرب الباردة؛ لإبقاء القرار الأمني ضمن حلف الناتو تحت قيادة واشنطن، حتى بعد زوال المسوّغ السوفياتي.
3.    أما في غرب آسيا (الشرق الاوسط) فالقواعد ليست مجرد وجود عسكري مؤقت، هي مفاتيح لخرائط الطاقة والممرات البحرية وأدوات ضغط سياسي تستخدمها واشنطن متى شاءت، لتعديل ميزان القوى في أي نزاع.

ذريعة الاستقرار ومخاطرها

الذريعة الأخطر هي دائما الاستقرار الإقليمي؛ لأن التجربة أثبتت أن وجود القواعد غالبًا ما يصنع توترات لا يطفئها؛ فهي تغري بالاستفزاز وتستدعي الصراع، وتعيد إنتاج مفهوم الأمن على أنه سلعة أمريكية الصنع، تباع وتشترى.

من العراق إلى قطر، ومن البحرين إلى جيبوتي، لا يكاد يمر عقد من الزمن إلا وتقدم القاعدة الأمريكيّة ضمانة ضد الفوضى؛ ثم تكتشف لاحقًا أنّها أحد أسباب هذه الفوضى.
التأثير في البنية السياسية الداخلية

أما التداعيات الأهم؛ فهي في بنية الدول السياسية التي تستضيفها.

وجود القواعد يخلق توازنات داخلية جديدة بين النخب: من يتبنّى خطاب الحماية الأمريكيّة يصبح جزءًا من شبكة النفوذ، ومن يعارضها يصنف متمردًا أو خارج الواقعية السياسية. بهذه الطريقة تتحول القاعدة إلى مركز نفوذ يتجاوز الجغرافيا العسكرية إلى إعادة هندسة القرار الوطني نفسه.

القاعدة الأمريكيّة المزمع إقامتها في غزة وتداعياتها

مع التبدلات الجارية، في المشهد العالمي، اليوم، خصوصًا بعد الحرب الأوكرانية وتغير موازين القوة في أسيا الوسطى وغرب آسيا، ويبدو أن واشنطن تسعى إلى إعادة توزيع قواعدها لا تقليصها. إن إنشاء قاعدة في غلاف غزة، كما نقل مؤخرًا، ليس حدثًا منفصلاً؛ هو حلقة جديدة في مشروع إعادة تموضع أمريكي يهدف إلى الإمساك بخيوط المنطقة في لحظة التحول نحو تعددية قطبية.

إنها صيغة جديدة لاحتلال ناعم يلبس لبوس القوات الدولية وحماية وقف إطلاق النار. 

إنها ليست مجرد نقطة تمركز عسكري؛ هي إعلان مرحلة جديدة من الوصاية المقنعة تحوّل الماساة الإنسانية إلى ذريعة لأحكام السيطرة على المعابر والحدود تحت شعار الاستقرار.

وستبدو القاعدة أن أقيمت كأنّها مشروع إغاثي؛ لكنّها في جوهرها ستعيد هندسة غزة، سياسيًا وأمنيًا، لتصبح ساحة اختبار لمعادلة الأمن بإدارة أمريكية والهدوء بإذن إسرائيلي.

تداعيات هذا المشروع لا تقف عند حدود فلسطين؛ تمتد إلى مصر التي ستجد نفسها أمام واقع أمني جديد على حدودها الشرقية، وإلى الأردن الذي سيتأثر بموازين القوى المتحوّلة في الضفة الغربية، وإلى لبنان الذي سيقرأ في هذا التحول محاولة لتعميم نموذج القواعد بالوصاية.

بهذا؛ تتحول غزة من رمز للمقاومة إلى مختبر للنفوذ، وتتحول القاعدة من منشأة عسكرية إلى أداة لتفكك ما تبقى من فكرة الدولة الفلسطينية نفسها.

إذا كانت القواعد الأمريكيّة في العالم قد أنشئت بذريعة الحماية؛ فإنّ هذه القاعدة إن قامت ستكون ذريعة لإدامة الاحتلال تحت غطاء دولي وتحويل المأساة إلى فرصة نفوذ. وهي ليست امتدادا للوجود الأمريكي في المنطقة، بقدر ما ستكون خلاصة فكرته؛ وهي أن يُعاد تعريف الأمن بما يخدم القوة لا العدالة، وبما يحفظ الوجود الأمريكي لا الكرامة الفلسطينية ولا استقرار الجوار.
 

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد