نديم جرجوره/ العربي الجديد
يصعب تحديد حاسم لما يتناوله "كوميديا إلهية" (2025)، للإيراني علي أصغري: الرقابة، المجتمع، السينما، التمثيل، المدينة، العرض السينمائي التجاري، الحضور العام، الأخوّة، النزاعان السياسي واللغوي. تعريفات عدّة تُساق في مناسبات عرضه، وفي مواقع وكتابات، منها المذكور في الموقع الإلكتروني لمهرجان فينيسيا السينمائي، بمناسبة عرضه في برنامج آفاق، في الدورة 82 (27 أغسطس/آب ـ 6 سبتمبر/أيلول 2025): بهرام مخرج سينمائي (40 عامًا)، يُنجز أفلامًا باللغة التركية ـ الأذربيجانية في حياته كلّها، من دون أنْ تُعرض في إيران. يدفعه رفض وزارة الثقافة منحه ترخيصًا لعرض فيلمه الأخير إلى التحدّي، فينطلق في مهمّة سرية، رفقة منتجته صدف، صاحبة اللسان الحاد، وراكبة الفيسبا، لعرض فيلمه على الجمهور الإيراني، متجنّبًا الرقابة الحكومية، والبيروقراطية العبثية، وشكوكه الذاتية.
لكنّ الرحلة السرّية، التي تحدث في أقلّ من 24 ساعة، تكشف مأزقًا آخر، يتمثّل برغبة أفرادٍ في تحقيق صفقات لحسابهم، عبر الموافقة على عرض الفيلم، أو دعم عرضه. فهذا يريد التمثيل في مشروع جديد، وبهرام (بهرام آرك، مخرج وسيناريست، مولود في تبريز الإيرانية عام 1989) يتعالى عليه سابقًا، لعدم اقتناعه بموهبته وحِرفيته؛ وذاك يبتزّه لتصوير فيلمٍ في سورية، باللغة العربية؛ بينما الطبيبة مارفات، صاحبة الكلبة شيلا، توافق على عرضٍ في منزلها، لأنّ في الفيلم دفاعًا عن حقوق الحيوانات.
الرحلة تلك تكشف عالمًا من مصالح وعلاقات غير سليمة، وأيضًا عشق السينما وفهمها وطرح تفسيرات لها، كما يفعل الرقيب (لن يظهر البتّة أمام الكاميرا، في زيارة بهرام له في مكتبه)، الذي يكشف وعيًا بفن السينما ومتطلباته، وللواقع الإيراني وحاجاته وقواعده. في هذا، تُذكر أسماء سينمائية عدّة في ظروف مختلفة: الإيرانيان إبراهيم حاتمي كيا وعباس كيارستمي، الأميركيان مارتن سكورسيزي ودارين أرونوفسكي، الفرنسي السويسري جان ـ لوك غودار، وغيرهم. في منزل بهمان، شقيق بهرام التوأم، هناك ملصق كبير لـ"ماتريكس" الأول، وقبيل نهاية الحكاية، يجري حديث بين مسؤول أمني والشقيقين عن الفيلم نفسه (علمًا أنّهما مشاركان في الكتابة أيضًا، إلى جانب علي رضا خاتمي وعلي عسكري).
بهذا، يُمكن اختزال الحبكة/الحكاية/الحالة باعتبار "كوميديا إلهية" مرآة واقع سينمائي إيراني بتناقضاته: رقيب يُدرك تمامًا معنى السينما وتأثيرها وحضورها، وعاملون وعاملات في السينما (إخراج، تمثيل، إنتاج، صاحب صالة)، لكلّ منهم/منهنّ تفسير لعمله في هذا الفن. والمجتمع الإيراني، بنماذج عدّة منه، يحضر أيضًا، لتبيان حركته وانشغالاته، وإنْ في هذا الجانب الفني ـ التجاري من دون غيره.
ي لقاء صحافي مع زملاء وزميلات، بعد العرض الأول لـ"كوميديا إلهية" في المسابقة الدولية للأفلام الطويلة، في النسخة الأولى (20 ـ 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2025) لمهرجان الدوحة السينمائي، يذكر علي أصغري أنّ فيلمه هذا "ليس سيرة ذاتية، بل عمل شخصي جدًا، يُروى بعدسة كوميدية"، معترفًا أنّ أحداثًا فيه مستوحاة من الحياة الواقعية، وقائلًا إنّه مكتفٍ بوضع الكاميرا في الشارع للتصوير: "ما ترونه الواقع. لم يكن لدينا ممثلون إضافيون، بل أشخاص عاديون"، مُشيرًا إلى أنّ ميزانية إنتاجه منخفضة، وأنّ تصويره حاصلٌ في فترة قصيرة. المنتج ميلاد خسرافي يقول إنّ معظم الميزانية متأتٍ من منتجين في القطاع الخاص: "عندما تصنع سينما فنية، لا تهدف إلى تحقيق أرباح كبيرة"، والشركاء يريدون أنْ يدعموا المشروع، وأنْ يكونوا جزءًا من الفيلم (في "كوميديا إلهية"، أشياء كثيرة من هذا).
الفيلم يُقرأ نقديًا بمساحة أكبر، لما فيه من تفاصيل تمزج السخرية بالكوميديا السوداء والواقع، الاجتماعي الحياتي الثقافي/الفني، بما يوحي بخيال خارج الكادر. فالبداية (لقاء بهرام بالرقيب في مكتب الأخير) يكشف سبب التعنّت في رفض عرض الفيلم تجاريًا: حضور كلبٍ في منزل، ما يعني أنّ هناك ترويجًا لاقتناء الكلاب "النجسة". لكنّ هذا مجرد بداية، فهناك اللغة التركية المستخدمة في الفيلم، ما يعني أنّ كلامًا عن وضع سياسي يجري أيضًا، واتّهام والد بهرام بكونه انفصاليًا. والأطرف كامنٌ في ذكر الرقيب أنّ حاتمي كيا يُنجز فيلمًا عن النبي موسى باللغة الفارسية، "ولم يتذمّر أحدٌ"، وسكورسيزي عن المسيح (التجربة الأخيرة للمسيح) الذي يجعله المخرج يتكلّم بالإنكليزية، "ولم يتذمّر أحدٌ". يقول الرقيب: "كلّ شيءٍ في السينما يتعلّق بالخيال. أنتَ غير محتاج إلى جعل كلّ شيءٍ حقيقيًا/واقعيًا".
هذا يؤسّس لمسار درامي، يفضي إلى خاتمةٍ لن تقلّ سخرية ومرارة وكوميديا سوداء عن المناخ العام للرحلة: الكلبة شيلا تُثير جدلًا بين بهرام والطبيبة. جدل آخر يحصل بين التوأم ومسؤول أمني، يعرف بهمان جيدًا، لكنّه يريد إيقاف العرض، قبل أنْ يخبر صديقٌ الجميعَ نبأ سقوط بشار الأسد.
التفسيرات ربما تكون كثيرة، لكنّ خاتمة "كوميديا إلهية" ساخرة ومريرة، مثله.