اوراق مختارة

الحرب بلسان أنثوي في "غزة عيتا الشعب غزة"

post-img

أنس الأسعد/ العربي الجديد

تبدو مداواة الجسد في الزمن الإبادي الذي نحيا لا تكفي وحدها لحفظ الوجود، فإلى جانب الجراح المادية، هناك تجارب إنسانية تحتاج إلى مَن يرويها. من هذا المنطلق، قُدّم عرض "غزة عيتا الشعب غزة" مؤخرًا على "مسرح مونو" ببيروت بمبادرة من منظمة "أطباء بلا حدود". تمثل المسرحية شهادة فنية ومحاولة لتقديم البُعد الإنساني، وإعطاء مساحة للرواية بأصوات نساء غالبًا ما يطويهنّ النسيان.

الفكرة الأساسية للعمل تقوم على لقاء تجربتَين متوازيتَين. من جهة، نساء من غزة يعشن الإبادة تحت القصف المباشر، ومن أُخرى نساء من جنوب لبنان يحملن ذاكرة نزوح وحروب، والسبب على كلا الجهتَين واحد: الاحتلال الإسرائيلي. وبفضل رؤية المخرجة لينا أبيض، صارت الخشبة مساحة مشتركة يتقاطع فيها الواقعان، بعيدًا عن الخطب الشعاراتية أو الإسقاطات العاطفية.

على الخشبة، لا ضجيج زائد ولا حركة استعراضية. تجلس الممثلات دارين شمس الدين وميرا صيداوي وكوزيت شديد كلّ في مكانها تقريبًا طوال الوقت، ويتكفّل الصوت بتجسيد البطولة. تتقدّم القصص كما لو أنها حكاية أولى، رغم أن الحرب والإبادة في المنطقة تُعاد وتُستعاد منذ سنتين، إن لم نقل منذ عقود. الجديد هذه المرة أن السرد يأتي من الداخل: من نساء شهدن، وفقدن، وانتظرن، ثم قرّرن الكلام.

تتحدث "نور" (ميرا صيداوي) من غزة عن عملها خلال الحصار، ومسؤولية نقل المعلومات في ظل انقطاع الاتصالات، وعن ثقل الخبر الذي ينهار قبل أن يصل بفعل خبر آخر أقسى، فيصبح الحزن ترفًا لا يسمح الزمن به، الخسارة تتسارع والوقت لا يتوقف كي تلتقط الناس أنفاسها. في المقابل، تروي شخصية "نهلا" (دارين شمس الدين) من عيتا الشعب حكاية امرأة عادت من النزوح لتجد بيتها بلا جدران. تحمل ذكرى أرضها كما تُحمل الصور العائلية في المحفظة. هي الأخرى تعرف الحرب، لكنّها تعرف أيضًا قدرة الإنسان على الوقوف من جديد حتى لو سقطت القرى ودُمرّت مرة تلو مرة.

تحضر الموسيقى في العرض مع صوت كوزيت شديد، ما يضيف عنصرَين من روح الواقع إلى المشهد، لتُغْنيانه لا لتقدما إضافات تجميلية له. الصوت يأتي أنفاسًا متهدّجة في حين تكشف لحظة الغناء طبقات الألم. الشهادات التي جمعتها فرق "أطباء بلا حدود" من نساء وطاقم طبي ومرافقي جرحى، لم تُطرَح بوصفها نصوصًا باردة، إنما جرت معالجتها لتصبح لغة وأداءً مسرحيًا فنّيًا.

الجوهر في "غزة عيتا الشعب غزة" أنّ النساء لا يقدّمن أنفسهنّ بوصفهنّ ضحايا. هنّ راويات، قادرات على جمع الشظايا وإعادة ترتيبها لتصبح قصة قابلة للحياة، وهذا هو الواقع كما هو، لا نقول هذا من باب التمجيد أو البطولية الساذجة. لا تدّعي المسرحية أنها تمتلك قدرة على مسح كلّ آثار الحرب، حتى بعد "توقفها"، ولا حتّى تغيير نتائجها، لكنها تعيد الاعتبار لحقيقة بسيطة: الإنسان لا يُحكى عنه في شريط إخباري أو تقرير طبي فحسب، بل يجب أن يحوز بذاته فعلَ الحكي بجدارته على الحياة أو عبر الفنّ، وإلا سيبقى معلّقًا بين الصمت والمحو.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد