أوراق ثقافية

كيف يؤثر الذكاء الصّناعيّ في تآكل اللغة العربية وأصالتها النّحويّة؟

post-img

د. زينب صالح الطّحان/ كاتبة وأستاذة جامعية

تتحدث هذه الورقة*** عن تَأثيراتِ الذَّكاءِ الصِّناعِيِّ في اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ مِن ثلاث زاويا أَساسيَّةِ: القَضاء على خُصوصِيَّةِ النَّسَقِ النَّصِّيِّ العَرَبِيِّ وتَآكُل التَّنَوُّعِ الثَّقافِيِّ اللُّغَوِيِّ وتَقزيم القُدُراتِ التَّعلِيمِيَّةِ، وَذلِكَ في ضَوءِ التَّطَوُّرِ المُتَسارِعِ لِتِقنِيّاتِ الذَّكاءِ الصِّناعِيِّ، وَلا سِيَّما في مَجالاتِ مُعالَجَةِ اللُّغَةِ الطَّبيعِيَّةِ (NLP).

أَوَّلًا– القَضاءُ على خُصوصِيَّةِ النَّسَقِ النَّصِّيِّ العَرَبِيِّ

يَشْكُو العَرَبُ قِلَّةَ البَيَانَاتِ المُتَعَلِّقَةِ بِاللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، وَيَرَوْنَهَا واحِدَةً مِنَ المُشْكِلَاتِ الَّتِي تُعِيقُ تَحْقِيقَ أَدَاءٍ عَالٍ فِي تَطْبِيقَاتِ الذَّكَاءِ الصِّناعِيِّ، وَالَّذِي يَرَوْنَهُ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى مُعَالَجَةِ هذِهِ اللُّغَةِ فِي مُسْتَوَيَاتِهَا الثَّقَافِيَّةِ وَالدِّلَالِيَّةِ كُلِّهَا؛ سَوَاءٌ أَكَانَتْ مَكْتُوبَةً أَمْ مَسْمُوعَةً أَمْ مَرْئِيَّةً. وَلَكِنْ هَلِ المُشْكِلَةُ الحَقِيقِيَّةُ هِيَ هُنَا فِعْلًا؟ فِي قِلَّةِ البَيَانَاتِ العَرَبِيَّةِ؟ أَمْ أَنَّهَا فِي طَبِيعَةِ هذِهِ البَيَانَاتِ، وَسِيَاقِهَا النَّصِّيِّ، نَحْوِيًّا وَصَرْفِيًّا، حِينَ نَسْتَعِيدُ مُخْرَجَاتٍ ذَكِيَّةً مُعَالَجَةً بِصِيَغٍ فِيهَا مِنَ الرَّكَاكَةِ وَالضَّعْفِ وَالسَّطْحِيَّةِ، تَتَغَلَّبُ عَلَى فَصَاحَةِ اللُّغَةِ وَأُصُولِهَا، إِلَى دَرَجَةٍ نَتَسَاءَلُ: هَلْ مَا بِتْنَا نَقْرَؤُهُ فِي هذِهِ القَوَالِبِ المُصَاغَةِ يُمَثِّلُ حَقِيقَةَ الصِّيَاغَةِ النَّصِّيَّةِ السَّلِيمَةِ؟

تَارِيخِيًّا؛ كانَ مُسْتَوَى الأَدَاءِ اللُّغَوِيِّ بَيْنَ الشُّعُوبِ النَّاطِقَةِ بِاللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ يَتَرَاجَعُ تَدْرِيجِيًّا؛ نَظَرًا إِلَى عَوَامِلَ عَدِيدَةٍ وَمُخْتَلِفَةِ الأَسْبَابِ، وَهِيَ لَيْسَتْ مَوْضُوعَ اهْتِمَامِ هذَا البَحْثِ؛ وَلَكِنَّ هذِهِ الرِّحْلَةَ مَا تَزَالُ تَتَوَارَثُ حَتَّى وَصَلْنَا إِلَى لَحْظَتِنَا الرَّاهِنَةِ؛ لِتَأْتِيَ تَطْبِيقَاتُ الذَّكَاءِ الصِّنَاعِيِّ، فَتَزِيدَ الظَّاهِرَةَ تَأَزُّمًا وَحِدَّةً، تَجْعَلُنَا نَقْلَقُ فِعْلًا مِنِ اضْمِحْلَالِ خُصُوصِيَّةِ نَسَقِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ وَتَذْوِيبِهَا فِي قَوَالِبَ هَجِينَةٍ أَوْ مُهَجَّنَةٍ. يَقُولُونَ إِنَّ النَّسَقَ النَّصِّيَّ العَرَبِيَّ؛ لِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ مِنْ بِنْيَةٍ نَحْوِيَّةٍ مُعَقَّدَةٍ وَصِيَغِ تَصْرِيفٍ مُتَعَدِّدَةٍ، يَجْعَلُ تَطْوِيرَ نَمَاذِجَ ذَكَاءٍ صِنَاعِيٍّ قَادِرَةٍ عَلَى التَّعَامُلِ مَعَ المَوَاضِعِ جَمِيعِهَا أَمْرًا صَعْبًا. وَلَا أَجِدُ هذَا الأَمْرَ صَحِيحًا البَتَّةَ. إِذْ مَا دَامَتْ عُلُومُ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ مُعْطَاةً لِخَوْرَزْمِيَّاتِ التَّطْبِيقِ؛ فَلِمَ لا يُعْطَى لَهُ القُدْرَةُ عَلَى صِيَاغَةِ جُمَلِهِ وَعِبَارَاتِهِ العَرَبِيَّةِ وَفْقًا لِنَسَقِهَا النَّصِّيِّ؟ فَهَلِ القُصُورُ مِنَ الآلَةِ فِعْلًا فِي عَدَمِ قُدْرَتِهَا عَلَى ذَلِكَ، كَوْنَ التَّرَاكِيبِ النَّحْوِيَّةِ وَالصَّرْفِيَّةِ فِي اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ مُمَيَّزَةٌ عَنْ غَيْرِهَا وَتَتَطَلَّبُ الدِّقَّةَ؟ أَمْ لِتَقْصِيرٍ مِنَ المُعِدِّينَ لِلْخَوْرَزْمِيَّاتِ؟

بَعْدَ بَحْثٍ وَتَدْقِيقٍ، تَبَيَّنَ أَنَّ هذِهِ الآلَةَ مُزَوَّدَةٌ بِالنُّصُوصِ العَرَبِيَّةِ التُّرَاثِيَّةِ، وَلَكِنَّ مُعْظَمَهَا مَوْجُودٌ بِصِيغَةِ صُوَرٍ (PDF/مَسْحٍ ضَوْئِيٍّ)، وَقَلِيلٌ مِنْهُ خَضَعَ لِلتَّرْمِيزِ وَالتَّدْقِيقِ الرَّقْمِيِّ، وَهُوَ غَيْرُ مُنْتَشِرٍ فِي مَجْمُوعَاتِ البَيَانَاتِ المَفْتُوحَةِ، وَتَالِيًا، النَّمُوذَجُ الذَّكِيُّ لَا يَتَعَلَّمُ مِنْ: الجَاحِظِ وَسِيبَوَيْهِ وَعَبْدِ القَاهِرِ الجُرْجَانِيِّ وَابْنِ هِشَامٍ وَابْنِ الأَثِيرِ وَالكُتَّابِ المُعَاصِرِينَ الرَّصِينِينَ.. تَبَيَّنَ أَنَّ الفِرَقَ الَّتِي تَبْنِي النَّمَاذِجَ الذَّكِيَّةَ العَرَبِيَّةَ، نَادِرًا مَا تَضُمُّ خُبَرَاءَ لُغَةٍ عَرَبِيَّةٍ مُتَخَصِّصِينَ فِي النَّحْوِ وَالصَّرْفِ وَالبَلَاغَةِ، وَمَنْ تَضُمُّهُمْ لَيْسُوا مُتَفَرِّغِينَ لِإِعَادَةِ تَشْذِيبِ اللُّغَةِ، هُمْ يَعْمَلُونَ فِي الحَدِّ الأَدْنَى المَطْلُوبِ لِلوُصُولِ إِلَى نَمُوذَجٍ فَعَّالٍ وَظِيفِيًّا، لَا فَصِيحٍ لُغَوِيًّا. لِذَلِكَ؛ فَإِنَّ مَكْمَنَ الخَلَلِ فِي المُخْرَجَاتِ العَرَبِيَّةِ فِي تَطْبِيقَاتِ الذَّكَاءِ الصِّناعِيِّ لَا يَعُودُ إِلَى قُصُورٍ جَوْهَرِيٍّ فِي قُدْرَةِ الآلَةِ أَوْ إِلَى تَعْقِيدٍ مُتَعَذِّرٍ فِي بِنْيَةِ العَرَبِيَّةِ؛ بَلْ يَرْجِعُ، فِي جَوْهَرِهِ، إِلَى طَبِيعَةِ البَيَانَاتِ الَّتِي لُقِّنَتْ بِهَا النَّمَاذِجُ وَإِلَى ضَعْفِ الإِشْرَافِ اللُّغَوِيِّ فِي أَثْنَاءِ عَمَلِيَّةِ التَّدَرُّبِ. وَالآلَةُ، بِوَصْفِهَا نِظَامًا يَقُومُ عَلَى الاِسْتِقْرَاءِ الإِحْصَائِيِّ، لَا تُنْتِجُ إِلَّا مَا يُغَذَّى بِهِ؛ فَإِذَا كَانَتْ غَالِبِيَّةُ النُّصُوصِ العَرَبِيَّةِ المُدْمَجَةِ فِي مَجْمُوعَاتِ البَيَانَاتِ تَتَّسِمُ بِالرَّكَاكَةِ وَالاِعْتِمَادِ المُفْرِطِ عَلَى التَّرَاكِيبِ المُعَلَّبَةِ، وَبَعِيدَةً عَنِ النَّسَقِ العَرَبِيِّ السَّلِيمِ، سَيُعِيدُ النَّمُوذَجُ إِنْتَاجَ هذَا الضَّعْفِ، حَتَّى يُعَمِّمَهُ بِوَصْفِهِ القَاعِدَةَ الغَالِبَةَ. وَالنَّتِيجَةُ هِيَ نَمَاذِجُ تَتَعَلَّمُ العَرَبِيَّةَ كَمَا يَتَكَلَّمُهَا وَيَكْتُبُهَا العَالَمُ العَرَبِيُّ اليَوْمَ: رَكَاكَةً، جُمَلًا طَوِيلَةً مِنْ دُونِ تَرَابُطٍ، تِكْرَارَ صِيَغٍ مُسْتَوْرَدَةٍ مِنَ التَّرْجَمَاتِ عَنِ اللُّغَاتِ الأَجْنَبِيَّةِ، تَكَلُّفًا فِي الأُسْلُوبِ، ضَعْفًا فِي الحِسِّ البَلَاغِيِّ.. هذِهِ سِمَةُ المُدْخَلَاتِ، وَلَيْسَتْ سِمَةَ العَرَبِيَّةِ الأَصِيلَةِ. وَهَكَذَا غَلَبَ عَلَى النَّمَاذِجِ أُسْلُوبٌ يُحَاكِي السَّائِدَ فِي مَنَصَّاتِ التَّوَاصُلِ وَالكِتَابَاتِ الصَّحَفِيَّةِ المُعَاصِرَةِ بِكُلِّ أَخْطَائِهَا، لَا الأُسْلُوبَ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْ جَوْهَرِ العَرَبِيَّةِ وَنَسَقِهَا الرَّفِيعِ.

إِنَّ الاِنْتِشَارَ الأَوْسَعَ لِهذَا المُسْتَوَى مِنَ الأَدَاءِ اللُّغَوِيِّ الَّذِي يَكْتَسِحُ العَالَمَ مَعَ تَطْبِيقَاتِ الذَّكَاءِ الصِّناعِيِّ يُؤَدِّي إِلَى تَرْسِيخِهِ فِي الوَعْيِ اللُّغَوِيِّ الجَمْعِيِّ. وَهِيَ بَدَأَتْ بِالفِعْلِ، نُلَاحِظُهَا حَتَّى مَعَ كِتَابَاتِ طُلَّابِ الدِّرَاسَاتِ العُلْيَا، فِي مُخْتَلَفِ الاِخْتِصَاصَاتِ، وَمِنْهَا اِخْتِصَاصُ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ وَآدَابِهَا أَيْضًا. إِذْ – مَعَ الأَسَفِ – نُلَاحِظُ أَنَّ التَّرَاكِيبَ الرَّكِيكَةَ تُسْتَعَادُ وَتُكَرَّرُ فِي فَضَاءَاتِ الكِتَابَةِ الأَكَادِيمِيَّةِ مِنْ دُونِ تَمْحِيصٍ.

عِندما كُنتُ أُحَضِّرُ لِهذَا البَحثِ؛ قُمتُ بِجَولَةٍ بَحثِيَّةٍ مُستَعِينَةً بِشَبَكَةِ الإِنترنت، عَلَّني أَجِدُ ما يَدعَمُ استِنتاجي هذَا؛ فَوَجَدتُ دِراسةً عِلمِيَّةً عَلَى مَنصَّةِ أرإكسف (arXiv)؛ قامَ الباحِثون فيها بِمُقارَنَةِ اللُّغَةِ المُستَخدَمَةِ في المَرحَلَةِ الَّتي سَبَقَت إِطلاقَ تَطبيق "تشات جي بي تي"، في أَواخِرِ العَامِ 2022 وَما بَعدَها، مُعتَمِدينَ عَلَى تَحليلٍ دَقيقٍ لِمَجمُوعةٍ ضَخمَةٍ مِنَ البَياناتِ اللُّغَوِيَّةِ، شَمَلَت ما يَقرُبُ مِن 360 أَلف نَصٍّ وَمَقطَعِ فِيديو مِن مَنصَّةِ يوتيوب الأَكادِيمِيَّةِ وَ771 أَلف نَصٍّ وَحَلقَةِ بودكاست؛ وَكانَتِ النَّتائِجُ لافِتَةً ومؤكدة لهذه الحقيقة. كَمَا أَنَّ هُنَاكَ تَجَارِبَ عِدَّةً أُجْرِيَتْ عَلَى بَرَامِجِ الذَّكَاءِ الصِّناعِيِّ لاِخْتِبَارِ مَدَى قُدْرَتِهَا عَلَى التَّخَاطُبِ بِاللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ؛ فَجَاءَتِ النَّمَاذِجُ العَرَبِيَّةُ رَكِيكَةً وَضَعِيفَةً بِخِلَافِ الإِجَابَاتِ بِاللُّغَاتِ الأَجْنَبِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ بِكَثِيرٍ. إِذْ تَتَفَاعَلُ البَرَامِجُ الذَّكِيَّةُ مَعَ المُسْتَخْدِمِ الأَجْنَبِيِّ مُبَاشَرَةً، فِي حِينَ يَتَرْجِمُ النَّمُوذَجُ المَعْلُومَاتِ لِلْمُسْتَخْدِمِ العَرَبِيِّ؛ فَتَأْتِي الصِّيَاغَةُ وَفْقًا لِتَرَاكِيبِ اللُّغَةِ الأَجْنَبِيَّةِ وَلَكِنْ بِكَلِمَاتٍ عَرَبِيَّةٍ.

إِنَّ الجِهَاتِ المُطَوِّرَةَ لِنَمَاذِجِ الذَّكَاءِ الصِّناعِيِّ تَتَحَمَّلُ مَسْؤُولِيَّةً أَخْلَاقِيَّةً وَاضِحَةً فِي ضَمَانِ احْتِرَامِ خُصُوصِيَّةِ اللُّغَاتِ الثَّقَافِيَّةِ الَّتِي يَتَعَامَلُ مَعَهَا التَّطْبِيقُ؛ فَإِدْمَاجُ بَيَانَاتٍ عَرَبِيَّةٍ وَاهِنَةٍ، مِنْ دُونِ غَرْبَلَةٍ عِلْمِيَّةٍ، لَا يُعَدُّ مُجَرَّدَ تَقْصِيرٍ تِقَنِيٍّ؛ هُوَ إِسْهَامٌ غَيْرُ مُبَاشِرٍ فِي تَشْوِيهِ الهُوِيَّةِ اللُّغَوِيَّةِ لِمِئَاتِ المَلَايِينِ مِنَ المُتَكَلِّمِينَ بِالعَرَبِيَّةِ. كَمَا أَنَّ الاِقْتِصَارَ عَلَى مُحْتَوًى رَقْمِيٍّ مُتَدَنٍّ، وَتَجَاهُلَ التُّرَاثِ النَّصِّيِّ العَرَبِيِّ الغَنِيِّ، يُظْهِرُ أَنَّ الأَوْلَوِيَّاتِ البَحْثِيَّةَ عِنْدَ بَعْضِ المُسَاهِمِينَ فِي إِعْدَادِ الخَوْرَزَامِيَّاتِ لَيْسَتْ مُوَجَّهَةً نَحْوَ بِنَاءِ نَمُوذَجٍ لُغَوِيٍّ يُرَاعِي سِمَاتِ العَرَبِيَّةِ، بَلْ نَحْوَ إِنْتَاجِ مُخْرَجَاتٍ عَمَلِيَّةٍ بِأَقَلِّ كُلْفَةٍ مُمْكِنَةٍ؛ ثُمَّ إِنَّ تَطْوِيرَ ذَكَاءٍ صِنَاعِيٍّ مُنْصِفٍ لِلُّغَةِ العَرَبِيَّةِ يَقْتَضِي إِرَادَةً مَعْرِفِيَّةً وَاعِيَةً، وَإِشْرَافًا عِلْمِيًّا عَرَبِيًّا حَقِيقِيًّا، يَضْمَنُ أَنْ تَكُونَ البَيَانَاتُ المُخْتَارَةُ مُمَثِّلَةً لِلنَّسَقِ العَرَبِيِّ السَّلِيمِ، وَأَنْ تُدَرَّبَ النَّمَاذِجُ عَلَى مَعَايِيرَ لُغَوِيَّةٍ رَفِيعَةِ المُسْتَوَى.

ثانيًا- تآكُلُ التنوّعِ الثقافيّ اللّغويّ

في الدِّراسةِ التي ذكرتُها تَحْمِلُ تحذيرًا جادًّا حيالَ مستقبلِ التنوُّعِ الثَّقافيّ واللُّغويّ العربيَّيْن. ويلفتُ الباحثونَ الانتباهَ إلى أنَّ اعتمادَنا المُفْرِطَ على أسلوبٍ لغويٍّ موحَّدٍ تعتمدهُ تطبيقاتُ الذَّكاءِ الصِّناعيّ ومنها "شات بي جي"، حتّى لو بدا أنيقًا ومنظَّمًا، قد يؤدّي إلى تآكُلِ الأصالةِ والتَّلقائيَّةِ والخُصوصيَّةِ التي تُمَيِّزُ التَّواصُلَ الإنسانيَّ الحقيقيَّ عمومًا، والعربيَّ خُصوصًا. في هذا السِّياقِ، نقولُ إنَّ اللُّغةَ عندما تكتسبُ طابعَ الذَّكاءِ الصِّناعيّ وأسلوبَهُ قد تُفْقِدُ الآخرينَ ثِقَتَهم في تواصُلِنا، إذ يشعرونَ بأنَّنا نسعى لتقليدِ الآلةِ أكثرَ من التَّعبيرِ عن ذواتِنا الحقيقيَّةِ؛ كلٌّ بأسلوبِه الخاصّ. وإنَّ ما بدأ، ليكونَ أداةً للمُساعَدَةِ في الكتابةِ والبحثِ، قد تحوَّلَ إلى ظاهرةٍ ثَقافيَّةٍ واجتماعيَّةٍ سلبيَّةٍ مُرَشَّحَةٍ للتَّوسُّع؛ فإذا كانَ الإنترنتُ قد أدخلَ على لغتِنا اختصاراتٍ تقنيَّةً، فما يحدثُ اليومَ هو انعكاسٌ مباشرٌ لعلاقةٍ أعمقَ وأكثرَ تعقيدًا بينَ الإنسانِ والذَّكاءِ الصِّناعيّ.

إذْ ما تزالُ اللّغةُ العربيّةُ تواجهُ صعوباتٍ في المعالجةِ الآليّةِ بسببِ:

  1. التّصريفِ الاشتقاقيّ الفريدِ؛ لا المعقّدِ؛ كما يدّعون؛ هربًا من تحمّلِ مسؤولياتِهم أو قصدًا لإضعافِ اللّغةِ العربيّةِ.
  2. غِنى البنيّةِ الصّرفيّةِ وتنوّعِ الجذورِ.
  3. غيابِ التّشكيلِ في النّصوصِ؛ ما يربكُ الفهمَ الآليّ.

إنّ المشكلةَ ليستْ تقنيّةً فقط، هيَ حضاريّةٌ، أيضًا، إذْ إنّ "التّكنولوجيا لا تحترمُ اللّغةَ إلّا بمقدارِ ما يحترمُها أهلُها أنفسُهم"؛ أي إنّ ضعفَ المحتوى العربيّ الرّقميّ وتراجعَ العنايةِ بالكتابةِ السليمةِ وفقًا للنّسقِ النّصيّ ينعكسانِ في أداءِ الذّكاءِ الصّناعيّ نفسِه. والخَلَلُ في البيئةِ اللّغويّةِ العربيّةِ الرّقميّةِ التي لم تواكبِ التحوّلَ: لغةٌ فريدةٌ صرفيًا، بياناتٌ ناقصةٌ، نماذجُ غيرُ مكيّفةٍ، جهودٌ بحثيّةٌ مشتّتةٌ وثقافةٌ رَقميّةٌ لغويّةٌ ضعيفةٌ.

ثالثًا- استخدامُ أدواتِ الذّكاءِ الصّناعيّ يؤدي إلى تَعَلّمٍ سطحيٍّ

إنّ استخدامَ الذّكاءِ الصّناعيّ في البحثِ عن المعلوماتِ سرعانَ ما تحوّلُ إلى إجراء سلبيًّ؛ لا سيّما بينَ طُلّابِ الدّراساتِ العُليا في الجامعاتِ. إذْ عندما يبحثُ الطالبُ عن موضوعٍ ما في نماذجِ اللّغةِ الكبيرةِ للذّكاءِ الصّناعيّ، فهو يخاطرُ باكتسابِ معرفةٍ سطحيّةٍ أكثرَ ممّا لو تعلّمَ خلالَ البحثِ التقليديّ على الإنترنتِ، حتى لو كانتِ الحقائقُ الأساسيّةُ في النتائجِ متطابقةً. لقد غيّرتْ برامجُ محادثةِ الذّكاءِ الصّناعيّ، مثلَ "شات جي.بي.تي" وغيرها من البرامجِ المماثلةِ، طريقةَ كتابةِ الطّلّابِ للنّصوصِ والعثورِ على المعلوماتِ في المدارسِ والجامعاتِ، فيحرِمُ التلميذ والطالب نفسَهُ من فرصِ اكتشافِ المعلوماتِ وقراءةِ عدّةِ أبحاثٍ أو الاطّلاعِ على مضامينَ عدّةِ كتبٍ؛ حينَ تأتيهِ الأجوبةُ جاهزةً من التّطبيقِ الذّكيّ.

إنّ أولئك الذينَ يتعلّمونَ من نماذجِ اللّغةِ الكبيرةِ للذّكاءِ الصّناعيّ مقارنةً بروابطِ الويبِ التّقليديّةِ؛ يشعرونَ باهتمامٍ أقلَّ في صياغةِ كتاباتهم وتوصياتهم. والأهمُّ من ذلك، أنّهم يُقدّمونَ كتاباتٍ ونصوصًا أكثرَ شموليةً وأقلَّ أصالةً، ما ينعكسُ تاليًا على قدراتِهم التّعليميّةِ ومعارفهم التّخصّصيّةِ؛ وبحالِ أصبحَ هذا النّموذجُ من الطّلّابِ أساتذةً في الجامعاتِ في المستقبلِ القريبِ؛ فستكونُ الطّامةُ الكبرى على مستقبلِ العلومِ والمعرفةِ الإنسانيّةِ، والتي لن تكونَ منحصرةً في حدودِ بلدانٍ محدّدةٍ، بل في العالمِ أجمع.

السّؤالُ الختاميُّ: ما الذي تحتاجُ إليه نماذجُ الذّكاءِ الصّناعيّ لتتقنَ اللّغةَ العربيّةَ؟

ليستِ اللّغةُ العربيّةُ "معقّدةً" بالمعنى السّلبيّ، هي غنيّةٌ بنيويًا إلى درجةٍ أنّ الذّكاءَ الصّناعيّ الحاليّ غيرُ مؤهّلٍ بعدُ لاستيعابِها بالكاملِ. ما يُسمّى اليوم ضعفًا في الأداءِ اللّغويّ، هو في الحقيقةِ قصورٌ تقنيّ في النماذجِ الغربيةِ أمام بنيةٍ لغويّةٍ ذاتِ منطقٍ داخليّ دقيقٍ ومترابطٍ. كما لا يمكنُ أن ننسى دورَنا في في إضعافِ لغتنا؛ عندما نستخدم الصّياغةِ الركيكةِ المترجمةِ إلى العربيّةِ بدلًا عن الصّياغةِ اللّغويّةِ العربيّةِ السّليمةِ وفقًا لتركبيتها الخاصّةِ والفريدةِ. في هذا الصّددِ؛ نحن مقصّرونَ، ولا أيُّ شيءٍ يسوّغُ لنا اقترافَ هذا الذنبِ. إنّ هذا الانزياح، إذا تُرك بلا مواجهة، يُنذر بإضعاف الحسّ اللغويّ بين الناشئة والباحثين على حدّ سواء، ويُكرّس صورة متدنّية عن إمكانات العربيّة التعبيريّة.

لذلك؛ هناك عددٌ كبيرٌ من التوصياتِ في خلاصةِ هذا البحثِ؛ ولكن أشدّدُ على واحدةٍ منها؛ وهي التي تعينُنا في بلدِنا وجامعاتِنا الوطنيّةِ؛ وهو ضرورةُ قيامِ الجامعةِ اللبنانيةِ ببناءِ نموذجٍ لغويٍّ عربيٍّ موحّدٍ ومتنوعِ الثقافةِ يعتمدُ على علومِ الصّرفِ والنّحوِ والبلاغةِ، بالتعاونِ مع المؤسساتِ الأكاديميّةِ والتقنيّةِ العربيّةِ في هذا المجالِ، لتزويدِ نماذجِ الذّكاءِ الصّناعيّ بها؛ إذ": "لا أحدَ يستطيعُ تطويعَ التكنولوجياِ لخدمةِ العربيّةِ إلّا أبناؤها".

*** الاتّساق النّصيّ في لغة الذكاء الصّناعيّ العربيّة وتآكل الأصالة النّحويّة : الملخص/ ورقة بحثية في مؤتمر "إبداع الإنسان وحدود الآلة: الذكاء الاصطناعي في عالم الآداب والعلوم الإنسانية"/ الأربعاء في 19/11/2025.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد