سعيد محمد/ جريدة الأخبار
لم تكن النخبة الفرنسية وريثة فلسفة «ثقافة الأنوار» في أكثر كوابيسها سوداويةً، تتأمل أن ينتهي المطاف بأيقوناتها في درك التردّي الأخلاقي السحيق، ليس بسبب نزعتها الاستعلائية، أو صهينتها، أو حتى فساد ذمتها الماليّة، بل بسبب التواطؤ المخزي مع قوّاد البيدوفيل جيفري إبستين.
بعد إماطة اللثام عن مضمون صندوق البريد الإلكتروني لـ «النخاس» الجنسي المرتبط بالموساد الإسرائيلي، سقط آخر قناع عن وجه جاك لانغ، وزير الثقافة والنائب اليهودي الأسبق، ورئيس «معهد العالم العربي» المجدّد له في منصبه للمرة الرابعة بدعم خليجي. لم يعد الأمر مجرد شائعات تطارد نجوم يسار «الكافيار» في صالونات باريس، بل لدينا اليوم أدلّة دامغة تفضح ذلك التشابك العضوي بين «المثقف» الاشتراكي الفرنسي والملياردير عقدة النخب الأميركية/ الإسرائيلية في رقصتهما الفاجرة عبر الأطلسي.
القصة التي فضحها تحقيق نشره موقع «بوليتيكو» في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي وتأكدت أخيرًا عبر نسخ من الرسائل الإلكترونية تتعلق بـ «تبرّع مالي» من إبستين لجمعية مشبوهة أسسها أصدقاء شخصيون للانغ كشفت عن عفن البنية التحتية للنخبة الثرية الفرنسية، التي لا تردعها «الثقافة» عن التقلّب في وحل النهب، والارتهان، والقوادة.
قبل عام واحد من انتحار إبستين (أو نحره) في زنزانته عام 2018، تلقى طلبًا من لانغ لتمويل إنتاج فيلم مع المخرج سيرج مواتي. أرسل إبستين بالفعل حوالة تبلغ قيمتها 57,000 دولار لجمعية فرنسية تحمل اسمًا بيروقراطيًا طويلًا ومريبًا: «جمعية تعزيز السياسة الثقافية الوطنية المتبعة في الثمانينيات والتسعينيات».
الاسم الطنان لم يكن سوى واجهة لكيان وهمي أسّسه ثلاثة أصدقاء مقربين من لانغ، ومنهم بائعة زهور وصديقة شخصية تدعى سيلفي أوبري. واعترفت الأخيرة بسذاجة أنّها «لا تتذكر أي نشاط حقيقي لهذه الجمعية» التي سُجِّل عنوانها في مبنى للعيادات الطبية ولم تعلم بوجودها الجهة الرسمية الفرنسية المعنية برصد الأنشطة الثقافية. إنها اللعبة القديمة ذاتها: خلق مؤسسات وهمية لشفط أموال مشبوهة تحت ستار الثقافة.
على أنّ الفضيحة الحقيقية التي كشفها بريد إبستين الإلكتروني تكمن في مستوى الحميمية والوقاحة في التواصل. في أيلول (سبتمبر) 2018، وبينما كان العالم كله يعرف أنّ إبستين مدان بجرائم جنسية منذ عام 2008 ومسجّل كمعتدٍ جنسي، كان جاك لانغ يراسله بودّ، مقترحًا عليه لعب دور «الوسيط» في مشروع إنتاج فيلم.
لا يمكن للانغ أن يدّعي الجهل، ولا التذرع بأنه التقى القواد الدولي مصادفة في عشاء لتكريم وودي آلن (دافع عنه لانغ أيضًا بشراسة ضد تهم التحرش بابنته). إننا أمام اختيار واع وممنهج: المثقف النذل يمد يده إلى جيب البيدوفيل، مستمطرًا أمواله، ومستغلًا شبكة نفوذه السياسي لتعزيز حظوظه الشخصية في الدوائر العليا للحكم الفرنسي وعبر العالم العربي.
ما يثير الغثيان في القضية ليس الفساد المالي بحد ذاته، بل ذلك التحالف الأيديولوجي والطبقي العابر للقارات. جاك لانغ، الذي يُفترض أن يمثل وجهًا حضاريًا وجسرًا بين الشرق والغرب كرئيس لـ «معهد العالم العربي»، يظهر هنا كترس صغير في ماكينة «اللوبي» العالمي الذي يجمع بين التصهين السياسي والانحلال الأخلاقي.
هذه الشبكة الوثيقة الارتباط بالموساد التي كان إبستين مركزها المالي، وغيسلين ماكسويل «قوادتها» الاجتماعية، ولانغ وغيره من الساسة واجهتها «المحترمة»، تمثل ذروة انحطاط النخبة الغربية. إنهم مجموعة من المتنفذين الذين يعتقدون أنهم فوق القانون، وفوق الأخلاق، وأنّ رغباتهم الشاذة هي استحقاق طبقي.
هذا الجمع بين «البيدوفيليا» كممارسة سلطوية على أجساد القاصرات، وبين «التصهين» كحاضنة سياسية توفر الحماية والإفلات من العقاب، يعرّي مجددًا العجيزة القبيحة للنخبة الحاكمة الفرنسية، يسارها قبل يمينها، بعدما تعرّت قبلها النخب الحاكمة الأميركية والخليجية.