اوراق خاصة

تحطم الطائرة الليبية.. اغتيال أم ..؟

post-img

معتز منصور/ باحث سياسي

لم يكن مقتل رئيس الأركان في ليبيا حدثًا عسكريًا بقدر ما كان لحظة كاشفة لطبيعة ما يُفترض أنه استُهدف. السؤال الجدي لا يتعلق بمن قُتل من، بل بما إذا كان هناك مشروع عسكري حقيقي يمكن اغتياله أصلًا. حين يُقتل رئيس أركان، ولا يتغير ميزان القوة ولا تتبدل خرائط السيطرة، يصبح من المشروع التساؤل عما إذا كان المستهدف شخصًا أم وهمًا، جرى التعايش معه طويلًا.

القراءة السائدة تعاملت مع الحدث على أنه ضربة لمشروع توحيد الجيش، وكأن هذا المشروع كان قائمًا، ويمتلك مقومات الاستمرار. غير أن الوقائع، منذ العام 2011، تشير إلى خلاف ذلك. إذ بقيت القوة خارج المؤسسات، وتقدمت الميليشيات على الجيش، وتحولت المناصب العسكرية في الغرب الليبي إلى مواقع شكلية لا تعكس سلطة فعلية. من هنا، لا ينطلق هذا المقال من فرضية الاغتيال ولا من نفيها، إنما من تفكيك الفكرة التي أحاطت بالحدث، فكرة وجود جيش يمكن اغتيال مشروعه.

منذ سقوط النظام السابق، لم تعرف ليبيا مسارًا سليمًا لبناء مؤسسة عسكرية وطنية بقدر ما شهدت إعادة إنتاج للسلاح في أشكال مختلفة. في الشرق، جرى تجميع الميليشيات تحت سلطة واحدة، لا تفكيكها أو إعادة تسميتها وإدماجها شكليًا في هياكل عسكرية. هذا أعطى الشرق منظومة شبه مستقرة؛ على الرغم من طابعها الميليشياوي، ما سمح له بالسيطرة على الموانئ والمناطق النفطية، وبالتحرك في الجنوب بشكل منظم نسبيًا. في الغرب، سادت حال مختلفة تعددية مسلحة جرى احتواؤها سياسيًا وماليًا، لا إخضاعها مؤسسيًا، ما خلق واقعًا هشًا حيث المنصب لا يعني سلطة، والأسماء لا تعكس قوة. هذا الفارق البنيوي خلق وهمًا مزدوجًا، شرقًا يوهم بوجود جيش، وغربًا يوهم بوجود مؤسسة.

الحداد رئيس الأركان الغربي، لم يكن أكثر من رمز ضمن هذا النسيج، منصب شكلي داخل سلسلة هشة من السلطة الميليشياوية. الموقع الذي شغله لم يكن ناتجًا عن تدرج عسكري داخل مؤسسة قائمة، بل كان تسوية سياسية ضمن منظومة السلاح والسيطرة المحلية.

هذا يفسر لماذا لم يؤدِ غيابه إلى فراغ قيادي، ولم يفتح صراعًا على خلافته، ولم يستدع تدخلاً عاجلا من القوى المؤثرة. المنصب نفسه كان يغطي الفراغ الهيكلي لا يملؤه، وهو ما يجعل الحدث أقل وقعًا على الأرض مما يُصور عادة في الإعلام أو في خطابات بعض السياسيين.

الخلل الاكبر، في السردية السائدة، هو ربط الأشخاص بالمشاريع. توحيد الجيش لم يتعطل بمقتل فرد، لأنه لم يكن متقدمًا أصلاً. لجان التوحيد والحوارات العسكرية والاجتماعات برعاية دولية، كانت في معظمها أدوات لإدارة التوازن لا لبنائه ولتجميد الصراع لا لحسمه. وما دام السلاح خارج الدولة، والمال خارج الرقابة والشرعية مؤجلة، فإن أي حديث عن جيش موحد يظلّ خطابًا سياسيًا لا مسارًا واقعيًا.

حتى التجارب السابقة تثبت هذه الحقيقة. إذ إن حرب بنغازي 2014 أظهرت صراعًا بين ميليشيات مصراتة والقيادات المحلية الشرقية. حرب المنطقة الغربية أكدت أن السيطرة على الأرض لا تعني وجود جيش رسمي. تجارب السنوات اللاحقة مع حكومة الوفاق وسيطرة حفتر على الشرق وعمليات الدبيبة في الغرب، كلها تثبت أن القوة الحقيقية لا تصنعها المناصب؛ بل الإمكانات العسكرية والولاء الفعلي داخل الميليشيات، وهو ما بقي قائمًا حتى بعد الحدث الأخير.

المفارقة أن مقتل رئيس الأركان لم يغير شيئا في علاقة الغرب بالشرق، ولا في موقع الحكومة، ولا في حسابات القوى الدولية. لم يتوقف مسار، ولم ينهر تفاهم، ولم يظهر فراغ يحتاج إلى من يملؤه. هذا بحد ذاته جواب عملي على السؤال الأساسي: ما اغتيل فعليا ليس الرجل، بل وهم الجيش الذي لم يكن قائمًا ومؤسسات شكلية لم يملأها شيء سوى الحاجة إلى غطاء للاجتماعات والحسابات السياسية.

التمسك بفكرة الاغتيال، بوصفها مؤامرة كبرى، يخفي هروبًا جماعيًا من مواجهة الحقيقة. الحقيقة أن الدولة الليبية ما تزال كيانا مؤجلا، تُدار لا تُحكم، وتُحتوى لا تُبنى. إنّ المؤسسة العسكرية، في الغرب تحديدًا، ليست ضحية مؤامرات بقدر ما هي ضحية غياب قرار تفكيك منظومة الميليشيات نفسها، أو العجز عن ذلك. هذا ما يجعل كل حديث عن توحيد الجيش كلامًا نظريًا أكثر منه واقعيًا.

ما يكشفه الحدث، إذًا، ليس خطورة ما جرى، بل محدودية ما كان قائمًا. المنصب الذي فُقد لم يكن معبرًا عن سلطة سيادية، هو محاولة إضفاء طابع رسمي على واقع مسلح. لذلك لم يهتز المشهد، ولم تتغير المعادلات، ولم يظهر من يسعى لملء فراغ غير موجود.

في النهاية، لا يكمن السؤال الحقيقي في ما إذا كان ما جرى اغتيالا، إنما في ما إذا كان هناك أصلاً ما يستحق هذا الوصف. حين لا يؤدي مقتل رئيس أركان إلى تغيير في الواقع، ولا يفتح أزمة سلطة، ولا يفرض إعادة حسابات، فذلك يعني أن الوهم وحده هو الذي سقط، وهم الجيش الذي لم يولد، والمؤسسة التي لم تخرج يومًا من ظل السلاح. الطريق إلى الدولة لا يمر عبر الأسماء، بل عبر كسر البنية التي جعلت الأسماء بلا معنى.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد