حسين خليفة (لبنان 24)
كما الكثير من الأعياد والمناسبات، يطلّ عيد الميلاد على اللبنانيين في ظروفٍ لا تبدو "مثاليّة"، ليس بالضرورة بين خياري الحرب والسلم، وهو خيارٌ يبدو أنه أُسقِط من يد اللبنانيين، ولكن على حافتين في وقت واحد: حافّة جنوبٍ لا يهدأ على رغم وقف إطلاق النار، بل ثمّة من يعتقد أنه قد يشتعل أكثر في الأيام المقبلة ترجمة للوعيد الإسرائيلي، وحافّة اقتصادٍ لا يلتقط أنفاسه منذ 2019، وقد عادت الأضواء إليه من بوابة قانون الفجوة المالية المثير للجدل.
فعلى الخط الأمني، يسجّل استمرار الاستهدافات الإسرائيلية من دون أيّ تغيير، وقد افتتح يوم الميلاد أساسًا باستهداف سيارة في منطقة حوش السيد علي، بعد سلسلة اعتداءات وانتهاكات رُصِدت أمس، في مناطق شمال الليطاني مثل صور والنبطية، في وقت بات يُنظر إلى الأسبوع الأخير من العام بوصفه "حدًا فاصلاً" على خطّ الحرب والتصعيد، وفق ما اعتُبرت "مهلة" إسرائيلية للشروع في خطوات جدية لنزع سلاح "حزب الله"؟
ويتزامن هذا الضغط الحدودي مع ضغطٍ من نوع آخر: سياسي ـ اقتصادي، عنوانه مشروع قانون "الفجوة المالية/استرداد الودائع" ومسار إعادة الانتظام المالي، لتبدو الدولة وقبل نهاية عام 2025، وكأنها مُحاصَرة فعلاً بين امتحانين: امتحان السيادة في الجنوب وامتحان الودائع في الداخل. والأسوأ أن كلاً من الامتحانين يضغط على الآخر، فلا اقتصاد يستقيم بلا استقرار، ولا سيادة تُستعاد فيما الثقة المنهارة تُفرغ الدولة من أدواتها وقدرتها على القرار.
السيادة تحت النيران
وسط هذه الامتحانات القاسية والصعبة، أو بالتوازي معها، تدخل الحكومة الأسبوع الأخير من السنة على وقع حديث رسمي عن اقتراب إنجاز المرحلة الأولى من خطة "حصر السلاح" جنوب الليطاني بحسب رئيس الحكومة الذي قال إن الدولة “جاهزة” للانتقال إلى مرحلة ثانية شمال الليطاني وفق الخطة التي أعدّها الجيش، وهو كلامٌ قيل إنه موجه إلى الخارج قبل الداخل، للقول إن الحكومة ماضية في استحقاق "حصر السلاح" حتى النهاية
منطق الدولة هنا واضح: كلما قُدِّمت خطواتٌ ملموسة لتوسيع انتشار الجيش وضبط السلاح في المنطقة الحدودية، تقلّ الذرائع أمام إسرائيل، وتُبنى ورقة سياسية - دبلوماسية في مواجهة الخروق. لكن التطور الميداني يقول شيئاً آخر: أن “الوقت” الذي تحتاجه الدولة لترتيب الداخل العسكري والأمني لا يتطابق مع “الوقت” الذي تفرضه إسرائيل بالنار، ما يخلق فجوةً خطرة بين الخطاب والواقع.
وما يزيد الأمر تعقيداً أن ملف الجنوب لم يعد أمنياً صرفاً، خصوصًا مع توسيع لجنة متابعة وقف إطلاق النار في الناقورة نقاشاتها لتشمل ملفات مدنية مثل عودة السكان والإعمار والبعد الاقتصادي، في إشارة إلى أن الاستقرار على الحدود بات يُربط صراحةً بمعادلةٍ أوسع: أمنٌ مقابل إعادة حياة، لا أمنٌ مقابل خطوط تماس فقط.وعليه، يصبح السؤال السياسي أدقّ من شعار “السلاح” نفسه: هل تستطيع الدولة تثبيت معادلة تجعل الجيش يتقدم بلا كسرٍ داخلي، وبلا تحويل الجنوب إلى مساحة ابتزاز متبادل؟
تشريع الإنقاذ أم قنبلة الانقسام؟
بموازاة معركة الحدود، تخوض الحكومة معركة أخرى في الداخل، يمكن وصفها بمعركة "الثقة"، او "استعادة الثقة"، وذلك على خلفية مشروع قانون لمعالجة الفجوة في النظام المالي وإتاحة الاسترداد التدريجي للودائع المجمّدة منذ انهيار 2019، وهو مشروع يلحّ سلام على إقراره سريعًا لأنه مسارٌ حاسم لاستعادة الثقة محليًا ودوليًا، ولأنه يرتبط بمعايير صندوق النقد وإعادة هيكلة القطاع جوهر المشروع يقوم على تمييز بين صغار المودعين (أقل من 100 ألف دولار) مع دفعات تدريجية على أربع سنوات، وبين الودائع الأكبر عبر أدوات/سندات مدعومة بأصول يصدرها مصرف لبنان بآجال تمتد بين 10 و20 سنة وفق حجم الوديعة، مع تدقيق دولي لأصول المصرف المركزي لتحديد حجم الفجوة. وهكذا، تبدو الحكومة وكأنها تحاول تقديم “خريطة طريق” بدل استمرار الفوضى: توزيع زمني للسداد، مشاركة من المصارف، وربطٌ أوثق بتدقيقٍ في الأصول ومقاربات تُلامس معايير صندوق النقد
غير أن المشكلة ليست تقنية فقط، بل سياسية بامتياز: من سيدفع الكلفة وكيف تُوزّع الخسائر؟ هنا تظهر خطوط اعتراض داخل الحكومة وخارجها. ويبدو التحدي مزدوجًا وفق هذه المقاربة، بين ثقة المودع الذي لم يرَ من الدولة منذ 2019 سوى "تعاميم" وقيود ومواعيد مؤجلة، وبين شرعنة الخطة، وهو ما يتطلب أن تترافق آلية السداد مع مسار محاسبة واضح وتحديد مسؤوليات ومعايير شفافة لما يُعتبر "ودائع مشروعة" وما يُعتبر تحويلات مشبوهة أو استفادة غير عادلة.
بين الأمن والاقتصاد، يظهر لبنان كدولة تُطالَب بأن تكون قوية في لحظةٍ واحدة على جبهتَين: قوية في الجنوب لضبط الأمن والحدود ومنع الانزلاق إلى تفلتٍ جديد، وقوية في الداخل لإقناع الناس بأن الدولة عادت لتكون مرجعيةً مالية وقانونية لا وسيطاً بين المصارف والمودعين. لكن القوة هنا ليست استعراضاً، بل قرارٌ واضح وخطة قابلة للتنفيذ. فإذا كانت "مهلة نهاية العام" جنوباً تُختبَر بالغارات والخروق، فإن "مهلة نهاية العام" مالياً تُختبَر بقدرة الحكومة على إنجاز قانونٍ لا يُبقي المودع رهينة الوعد، ولا يترك الاقتصاد رهينة انتظارٍ جديد. فهل تنجح الدولة في تحويل نهاية السنة من "حافة" إلى "منعطف"، أم تُترك لتدخل 2026 وهي تحمل امتحانَي السيادة والودائع على ظهرٍ واحد؟