لقد اعتدنا أن نعيد قراءة مذكرات جان جينيه (1910 ــ 1986) حول مجزرة صبرا وشاتيلا التي تصادف ذكراها الـ 42 هذه الأيام، ولكنها كانت بعيون شاهد شاعر، أحبّ الفلسطينيين كمظلومين وعاش قليلًا مع الفدائيين ليكتب نصه الشهير «أربع ساعات في شاتيلا». لكنّ هناك كثيرين ممن كانوا شعراء في إحساسهم بحياة الفلسطينيين، وعرفوا كيف يفهمون جراحهم ويدافعون عنهم بطريقتهم، ومعظمهم كانوا أطباء في مستشفيات فلسطينية، وقد شاهدوا بقلوبهم ما هو الظلم، فكيف إذا كانت المجزرة وغزو الصهاينة لبيروت واقترافهم المجازر يقظة إنسانية للكثيرين، خصوصًا حين يكونون صهاينة ويصبحون فلسطينيّي القلب؟
فقد قرأنا أيضًا ما كتبه آلان بابيه، وشلومو ساند وغيرهما عن هذا التحول، ولكن كيف يصبح هذا التحول مختلفًا حين يلامس الموت من قرب ويصبح شهادة لضمير البشر عن الظلم الذي لحق بالفلسطينيين؟ سنعرف ذلك حين نقرأ سردًا إنسانيًا مفعمًا بمعنى الألم والإيمان بالعدالة لشاهدة عاشت من أجل الفلسطينيين، ولا تزال تعيش من أجلهم. آنغ سوي شاي جرّاحة عظام صينية وقد كانت صهيونية مسيحية، وقد أصدرت كتابًا بالإنكليزية يوثق ما حدث حين تحولت إلى مناصرة للقضية الفلسطينية بعدما تطوعت أثناء مجزرة صبرا وشاتيلا في «مستشفى غزة» وشاهدت بأم عينيها كيف يقترف الإسرائيليون وعملاؤهم المجازر ويقتلون الأطفال ويغتصبون النساء. هكذا شكلت مجزرة صبرا وشاتيلا ذاكرة هذه الطبيبة التي أحبت أن تخلص في كل مناحي حياتها للجرح الفلسطيني الذي ما زال ينزف حتى الآن.
صدر كتابها باللغة الإنكليزية بعنوان «من بيروت إلى القدس» عام 1989 وأعيدت طباعته أخيرًا. سردت الجرّاحة والناشطة الصينية رحلتها من بيروت الى القدس لتشهد على المجزرة وتحتج من أجل الفلسطينيين الذين أحبتهم كثيرًا، وكونت صداقاتها العميقة بينهم أثناء عملها كمتطوعة في «مستشفى غزة» أثناء مجزرة صبرا وشاتيلا.
للجرح معنى آخر في حياة هذه الجراحة التي ولدت في ماليزيا، وكانت تعيش في سنغافورة قبل هجرتها إلى بريطانيا، فهي تعلم أنها لا تود دراسة الجراحة فقط، بل أن تشرح معنى الإنسان في الداخل. كانت تدرك أن الطب مهنة إنسانية، وليست فقط وظيفة تعمل فيها من أجل كسب العيش. أتت الأحداث التي عاشتها لتبرهن لها معنى ما كانت تشعر به خلال دراستها.
هي لاجئة لأبوين ناجيين من المحرقة النازية واختارت المسيحية دينًا لها. تزوجت من محامٍ كاثوليكي وهاجرت إلى لندن للعمل في مستشفى هناك. وكانت في ذلك الوقت تؤمن بأن لا وجود للفلسطينيين وأن منظمة التحرير هي مجموعة إرهابيين يريدون تدمير «إسرائيل».
وحين بدأ الغزو على بيروت من قبل الموساد الإسرائيلي عام 1982، كانت لي تسائل الله: لماذا يحدث ذلك؟ وخصوصًا حين لاحظت أنّ الإسرائيليين يقتلون المدنيين والأطفال والنساء. ولأنها طبيبة ومسيحية، لم تحتمل ذلك، لكنّها عرفت أن إجابة الخالق جاءت حين سمعت أن الصليب الأحمر يحتاج الى جرّاحين وجرّاحات للتطوع في لبنان. ومنذ ذلك الوقت، شعرت أنها في «سلام تام»، خصوصًا حين شجّعها زوجها فرانسيس على الذهاب.
تسرد آنغ سوي شاي كيف التقت للمرة الأولى بأول «فلسطيني» في حياتها. أخبرها أنّ الفلسطينيين قد طُردوا من فلسطين التي لم تكن تعرفها إلا باسم «إسرائيل». وكان ذلك في قبرص، التي وصلت إليها قبل السفر إلى بيروت عبر البحر، لأن المطار في بيروت كان مقفلًا. وحين وصلت إلى المدينة، أخبرتها إحدى السيدات أنّ الفلسطينيين لم يندمجوا في المجتمع اللبناني، وأنهم يعيشون في مخيمات. وكانت فكرة سوي عن المخيمات بأنّها مجموعة خيم، لكنها لم تجد ذلك.
اختارت سوي «مستشفى اللاهوت» و«مستشفى عكا» لأنهما «لم يكونا مستشفيين خاصين كما باقي المستشفيات في الحمرا، فأحبت أن تكون مع الفقراء واللاجئين، وشعرت منذ ذلك الوقت، أنها ليست طبيبة فقط، بل إنها إنسانة قريبة من الألم الإنساني».
وحين رحل المقاتلون الفلسطينيون عن بيروت، انتقلت سوي إلى «مستشفى غزة»، حين أدركت للمرة الأولى أنّ مقاتلي «منظمة التحرير» لديهم بيوت وقصص وجراح وبلد محتل يحنّون للعودة إليه. بدأت العمل في المستشفى المجاور لمخيم صبرا وشاتيلا وقد أخبرها اللاجئون الفلسطينيون أن هذا المستشفى هو بيتهم، وقد شاهدت مديرة المستشفى آنذاك اللبنانية الفلسطينية عزيزة خالدي توجه فريقها وتتعاطف معه وتقوده، فتأثرت سوي وعرفت أنها ليست فقط في مستشفى. وكانت هذه المستشفى بمنزلة ملجأ للهاربين من الموت واللاجئين الذي يحضرون أغراضهم معهم.
حكت سوي عن المجزرة لكن بطريقة مختلفة، لأنها لم تصف فقط الموت والجثث والأيدي المبتورة والدماء، بل كيف كانت تصطدم بتلك الصور وتتفاعل معها في الداخل أثناء عملها. وكانت أولى ملاحظاتها هي مساءلة دورها كجراحة، فتقول: «إن مهاراتي العلمية كجراحة جعلتني أعالج بعض الفلسطينيين، ليخرجوا إلى الشوارع ويُقتلون مجددًا بدم بارد». ولاحظت حينها أن المعركة لم تكن فقط بين جنود إسرائيليين ومقاتلي «منظمة التحرير»، بل بين إسرائيل والميليشيات العميلة من جهة، والناس والعائلات والأطفال من جهة أخرى.
ومما شاهدته الكثير الكثير من الموت، خصوصًا أنّ النساء كنّ عاريات لأنهن تعرّضن للاغتصاب قبل قتلهن. والناس الذين قُتلوا، كانوا قد تعرّضوا لتعذيب شديد قبل القتل الرخيص، إذ كانت وجوههم مشوّهة. وقالت سوي جملة ربما لا تُنسى عن رؤيتها للموت داخل مخيم شاتيلا: «كانت الأجساد ملقاة في الدم الذي ما زال لونه أحمر».
وفي حديثها مع الناجين في المستشفى، علمت سوي أن بين الجنود الصهاينة كان هناك أفارقة سود، وأيضًا أشخاص يلبسون ثيابًا جديدة ويتحدثون الألمانية. بكت سوي كثيرًا، وأصيبت بنوبة تعب طويلة لم تعرف النوم بعدها. أرسلت إلى زوجها فرانسيس في بريطانيا تلغرامًا تشرح فيه هول المأساة وما شاهدته أثناء المجزرة، وكيف غزا هؤلاء الجنود مستشفى وقتلوا الممرضين ثم سألته سؤالًا مهمًا: هل سيصبح عبيد الماضي أحرارًا يومًا ما؟ وقالت له أيضًا: «لقد نظرت في وجه الموت ورأيت البشاعة والقوة، ولكني نظرت في عينيه ورأيت الخوف».
وكتبت هذه الجرّاحة الإنسانة رسالة احتجاج للعالم وأرسلتها مع ليلى شهيد إلى لندن، ولكنها لم تحصل على أي ردّ على رسالتها.
ومع تجاهل العالم لها، قررت آن سوي تكريس حياتها من أجل الحق، حين تعرفت إلى الين سيغل الأميركية اليهودية التي تعمل أيضًا كجرّاحة وهي كذلك متضامنة مع الفلسطينيين. سألتها ألين إذا كانت تود السفر إلى القدس لكي تشهد على المجزرة وتعرف إسرائيل أنّها مسؤولة عن كل ما حدث في بيروت. لعل في أسئلة هؤلاء المتضامين لبعضهم أيضًا معانيَ كبيرة وعظيمة، فعندما تعرفت سوي إلى ألين، سألتها كم عمرها لأنها تبدو في العشرينات، لكن ألين أجابت بأنها «في الأربعين، لكنها نسيت أن تكبر لأنها تعمل مع الفلسطينيين».
حمّل اللاجئون الفلسطينيون من أصحاب سوي في المخيمات سلاماتهم إلى فلسطين معها، وقالوا لها: «سلّمي على يافا وحيفا والقدس وعكا».
وحين وصلت هناك، شعرت كأنّ الفلسطينيين هم الذين أوصلوها إلى مكانها الذي تحب، إلى القدس، وقالت لألين: «هذا هو الحج بالنسبة إليّ، لقد أوصلني الفلسطينيون إلى هنا». وحين رأت بيوت المستوطنين، قالت ألين: «هذه هي البيوت التي بنيت على اللاعدالة».
تعاملت لجنة كاهان الإسرائيلية («لجنة التحقيق في أحداث مخيّمات اللاجئين الفلسطينيّين في بيروت») مع سوي كمتعاطفة مع «منظمة التحرير»، ورفضت اللجنة اسم الفلسطينيين، وسمّت احتجاجها بالاحتجاج اللبناني. وقد بدأت ألين في الحديث كشاهدة على المجزرة وقد أحضرت معها كل الجرائد العبرية التي جمعتها هناك. أما سوي، فقد فقدت الاهتمام باللجنة التي كانت تقول إنّها لا تعلم بكلّ الذي حدث. وتقول سوي إنّ «حبي للناس في المخيمات جعلني أتحدث للصحافة عما حدث لأنّ الإسرائيليين ينكرون وجودهم حتى وهم مقتولون. ورغم أن هذه اللجنة كانت تدعي أنها تمثل «الديموقراطية الإسرائيلية» ولكنها لم تفعل شيئًا كي تخفف آلام الفلسطينيين في المخيمات».
وأثناء تواجدها في القدس، أعطت سوي تصريحًا مهمًا عن المجزرة لمحامية إسرائيلية تُدعى فيليسيا لانجر، وقد أبدت فيليسيا نوعًا من التعاطف مع الفلسطينيين.
عادت سوي إلى لندن، وكان زوجها فرانسيس يعتقد أنها قُتلت في المجزرة، خصوصًا أنّه لم يذكر اسمها ضمن لائحة الناجين البريطانيين. ومنذ الرسالة التي بعثتها إلى فرانسيس، غابت أخبارها عنه. وفي لندن، لم يكن هناك قبول لآنغ سوي شاي في الإعلام البريطاني، فقد أجرت بعض المقابلات المحدودة في إحدى الجرائد. وقالت عن ذلك: «لقد حلمت أن تكون لدي عيون زرقاء وشعر أشقر حتى أستطيع التعبير عما رأيت».
لكنها لم تيأس وبدأت بالحديث عن معاناة الشعب الفلسطيني في الجوامع والكنائس والجامعات والمدارس، وشرحت ياستخدام الصور والوسائط ماذا حدث أثناء المجزرة. بدأ الناس يبدون تعاطفهم تجاه الفلسطينيين. وهكذا أسست آنغ سوي شاي جمعية تطوعية سمتها «المساعدات الطبية للفلسطينيين» وهي جمعية إنسانية غير سياسية للتضامن الطبي في علاج الفلسطينيين في لبنان. عادت آنغ سوي شاي إلى لبنان في عام 1987، فأخبرتها أم وليد التي كانت تشرف على «مستشفى حيفا» في مخيم برج البراجنة، أنّ «مستشفى غزة» قد أُغلق، فبدأ طاقمها المتطوع العمل في «مستشفى حيفا».
عاشت آنغ سوي شاي مع الفلسطينيين، وكانت تقول إنّها تحبّ طعامهم كثيرًا، فـ «أهل المخيم يجعلون كل شيء لذيذًا حين يطبخونه». وأكثر ما كانت تحبه في الجلوس إلى الطعام أن الأطباء والممرضين وعمال التنظيفات كانوا يجلسون معًا إلى طاولة واحدة، بينما في بريطانيا، فإن كل طبقة تأكل وحدها.
وفي عام 2006، زارت آنغ سوي شاي غزة مع زميلها الجراح الفلسطيني غسان أبو ستة، وعملت هناك أيضًا في أحد المستشفيات، ولكنها مُنعت من الدخول عام 2014.
وفي نهاية الكتاب، ضمت آنغ سوي شاي رسالتها إلى البابا بندكت عندما علمت بزيارته إلى لبنان، وقالت له ضمن الرسالة إنّ «اللاجئين الفلسطينيين يعانون كثيرًا في المخيمات، من الفقر والحرمان من حقوقهم المدنية، وحقهم في العمل، وطلبت منه في حالة عدم تمكنه من زيارة مخيم شاتيلا في ذكرى المجزرة أن يرسل ممثلًا عنه إلى هناك». لكنه لم يأتِ وقد قامت جريدة «السفير» بنشر هذه الرسالة في 26 آب (أغسطس) 2012. كذلك، ضمت سوي شاي رسائلها إلى فرانسيس زوجها، وقالت إنّها تشعر أن هناك دماء على يديها لأنها كانت تجهل كل هذا في الماضي، وتمنت من الله أن يسامحها، وتعهدت أن تخدم الفلسطينيين طوال عمرها وأن تكون صديقة لهم.
يشكل هذا الكتاب مرجعًا وشهادة حية، على كل المهتمين بترجمته لأنه يشكل وثيقة في وجه الجرائم والمجازر التي ارتُكبت في حق الفلسطينيين، ليس فقط في صبرا وشاتيلا، بل إدانة لظلمهم وادعائهم وكذبهم. وهناك زاوية مهمة ونادرة داخل هذا الكتاب، وهي سرد التحول الفكري الذي حدث في حياة هذه الجرّاحة، وكيف يكون الطب مختبرًا للجرح الإنساني الذي لا يتوقف.
وهناك صورة على غلاف الكتاب الخلفي وقد أخذتها آنغ سوي شاي لأطفال من شاتيلا، ممن فقدوا أهاليهم. كانوا يقفون ويرفعون شارة النصر ويقولون: «نحن لسنا خائفين، فلتأتِ إسرائيل». في كل مرة تعود فيها إلى لبنان، تبحث آنغ سوي شاي عن هؤلاء الأطفال. وحين لا تجدهم، تقول إنها تجدهم في قلبها. وفي كل مرة يصعب فيها الوضع كثيرًا، فإنها تعود إلى تلك الصورة لتستمد منها القوة. نقرأ شهادة هذه الجرّاحة الصينية ونتخيل أطفال غزة الذين يستيقظون على دوي الموت ويفقدون العائلة كلها وما زالوا يلوحون ولو بيد واحدة إلى المستقبل، نحتاج إلى كتب كثيرة مثل كتاب سوي شاي لتوثّق أوجاعهم وأحلامهم معًا.