شاهدت فتاة تلبس قميصًا عليه صورة نصف بطيخة وتحمل في يدها علمًا فلسطينيًا. صرخت بالفتاة دون تمييز «تحيا فلسطين»، فردت عليّ التحية ملوحة بقبضة يدها. سارعت أسألها «هل هناك حدث؟ هل هناك تجمع ما؟»، أشارت إلى بداية الشارع لاهثة: «هناك مظاهرة ضخمة، الحقيها». سارعنا أنا ووالدتي ووالدي على دراجة سكوتر يستخدمها لتفادي أوجاع قدميه، ننضم لذيل المظاهرة وقد أخذتنا اللحظة وتصاعدت المشاعر لتتحول دموعًا في الأعين ورجفات في الأيادي وصرخات تخرج وهي تشق الحناجر شقًا.
من ذيل المظاهرة وجدنا أنفسنا ونحن نجد بالمشي والهتاف، في منتصفها، ثم في مقدمة أحد أجزائها، فهذه المظاهرة كانت من الضخامة أن تقسمت إلى أجزاء عدة مترابطة سدت الشارع العريض بأكمله، حيث توقفت حركة السيارات فيه تمامًا، وحيث غرق بأكمله وبكل أطرفه في موج بشري هادر يهتف من أجل فلسطين. تلامست أكتافنا نحن الغرباء المختلفين تمامًا عن بعضنا بعضًا، وترابطت قلوبنا رغم تباين الأشكال والألوان والألسن. جمعتنا مشاعر الألم والظلم والقهر وكذلك مشاعر الفخر والاعتزاز، فخرنا بفلسطين واعتزازنا بالموقف الذي جمعنا تحت رايتها اليوم. رأيت في الأعين انعكاس هذا الشعور بالاختلاف «الفاخر،» أننا لسنا كالبقية، لسنا صامتين، لسنا قابلين، لسنا متوحشين بتجاهلنا للاستعماريين قتلة الأطفال. لا بد أن شيئًا من الأنانية البشرية والشعور بالأنا قد تلبسنا جميعًا، وهي الحالة الوحيدة التي تُقبل فيها الأنانية ومشاعر الأنا، أننا مختلفون عن هؤلاء الجالسين على المقاهي والرائدين للمتاجر، أننا اخترنا ولو لوهلة من الزمن أن نفعل شيئًا، ولو كان مشيًا بسيطًا في مظاهرة وهتافًا ضائعًا في لجة الزحام.
«نريد الحرية لفلسطين، الآن، الآن، الآن، تسقط الدولة الإسرائيلية العنصرية، من النهر إلى البحر، فلسطين ستكون حرة، من البحر إلى النهر، فلسطين ستبقى للأبد، اسمع يا نتنياهو، نحن نتهمك بالإبادة. اسمع يا بايدن، نحن نتهمك بالإبادة. اسمع يا ستارمر، نحن نتهمك بالإبادة». بين الصرخات المتحشرجة، كنا نتبادل الالتفاتات، الابتسامات، ونظرات حنين وتفهم، كأننا نحيي بعضنا بعضًا على هذه الوقفة الصغيرة وهذا الموقف الضئيل. من حولي رأيت عددًا كبيرًا من الإنجليز الذين علا هتافهم عمن عداهم، وكأنهم يحتجون على ويدفعون عن أنفسهم تواطؤ دولتهم. كانت هناك جالية فلسطين وأردنية وسورية ولبنانية كبيرة كذلك، حسب ما تبين لي، إن صح تمييزي للهجات. ميزتُ كذلك مصريين كثرًا وبعض التونسيين والمغاربة، وكان هناك ألمان وفرنسيون في موج هادر من الأوروبيين المشاركين الذين صعب عليّ تمييز اختلاف لكناتهم الإنجليزية.
كان بين المشاركين كذلك مؤسسات ومنظمات أعلنت عن وجودها بلافتاتها. اقترب أحدهم من والدي وسأله إن كنا نحب أن نحمل لافتاتهم، قبلنا شاكرين ممتنين، ليتبين أنهم حزب عمالي اشتراكي، ما زاد من حماستي. في منتصف الشارع، كانت هناك مجموعة يهودية كبيرة تقف مكانها منتظمة في صفين، الأول من الكبار وأمامهم صف من الأطفال يحملون الأعلام الفلسطينية والملصقات ويهتفون «تسقط، تسقط الدولة الصهيونية الإسرائيلية». اقتربنا منهم ورددنا خلفهم هتافاتهم وشكرناهم وأطفالهم على حضورهم المعبّر، على هذه الإنسانية التي تفوقت على إنسانية أبناء عمومة كانوا هم أولى بها.
راودتني مخاوف محاولة الشرطة فض المظاهرة، كيف سنتحرك بدراجة والدي وبانضغاطنا وسط هذا الموج الهادر من البشر، إلا أن انتباهي سرعان ما كان يتشتت عن تلك المخاوف ذاهبًا إلى حيث الصور المرفوعة على الأكتاف لأطفال مقتولة وأجساد مغمورة تحت الركام وآباء وأمهات ثكالى وأطفال جائعين ضائعين وحيدين، لكل الجُمل المكتوبة بخطوط الأيادي الركيكة والمعبرة جدًا بصدق وإيمان والتي تذكّر بالعذاب والفقد، تشير للإبادة والتفجير، تصور الأطفال محمولين أشلاء في أكياس، تفصّل عدد القنابل الملقاة على غزة والتي فاقت بآلاف المرات في قوتها القنبلتين النوويتين الملقاتين على هيروشيما وناغازاكي مجتمعتين، توضح أرقام القتلى والجرحى والنازحين والباقين تحت الركام، تعدد المجازر التي بلغ عددها الآلاف منذ بداية حرب الإبادة على غزة في السابع من أكتوبر، تبيّن العدوان الحالي على الضفة وبقاع أخرى من فلسطين دون أي «مبرر»، لافتات ولافتات تنخر العظام بصورها وكلماتها وترويع فحواها، فأستحي من خوفي وأستظل بلافتتي وأكمل المسير.
سرنا نحو ما يزيد على الساعة، غسلنا إبانها قلوبنا بالدموع والهتاف والدعوات الصادقة على الصهاينة ومن أجل فلسطين. لم تكن تلك رحلة كسابقاتها، كانت معجونة بالذنب والتقييم المستمر لأخلاقية الرحلة ولمشروعية أماكن صرف نقودنا خلالها، لتأتي هذه المظاهرة فتصنع للرحلة معنى وتعطيها بعدًا سيبقيها في أذهاننا أبد الدهر. لا يعفينا كل ما نفعل ونقدم من أننا نعيش حيواتنا طبيعية فيما مجزرة يومية تقع في فلسطين، لكن لربما هو هذا التحالف الإنساني العالمي الذي سيحدث فرقًا ذات يوم. ترى، متى سنمشي في مظاهرة ألفية أو مليونية كتلك على أرض عربية؟