أخيراً، بعد عام تماماً على بدء العدوان الإسرائيلي، نزح إبراهيم عبد المنعم من عيترون. مزارع التبغ ابن الـ 45 عاماً، كان قد تحوّل إلى أيقونة للصمود في بلدته. رغم الغارات التي انهالت على الحيّ الذي يسكن فيه وعلى حقله، أصرّ على البقاء في عيترون مع زوجته نسرين ووالدته وأطفاله الأربعة وشقيقه وخمس عائلات من جيرانه... لكن بدءاً من الإثنين قرّر أن الوقت قد حان، «كرمى للأولاد على الأقل». شدّة الغارات التي استهدفت أحياء عيترون والبلدات المحيطة في وقت متزامن جعلت تلك الساعات القليلة توازي عدوان عام كامل. «صباح الإثنين الماضي، بينما كنت في تبنين لتسليم جزء من محصول التبغ، اتصلت بي زوجتي لتخبرني بأن غارة استهدفت منزل جارنا وأصابت زوجته وأولاده الأحد عشر. في طريقي من تبنين إلى عيترون، كانت الغارات متل الشتي على بيت ياحون وكونين وعيناثا وبنت جبيل. التقيت بقوافل نازحين من تلك البلدات كانوا يشيرون لي بأيديهم، متسائلين إلى أين أعود؟». عند حدوث الغارة، كانت زوجته نسرين في منزل ذويها تعدّ خبز المرقوق مع والدتها، تقول: «في غضون ساعة، صار صعباً إحصاء الغارات ومواقع سقوطها. انهار أطفالي من الذعر والبكاء، فاضطررنا إلى المغادرة».
رحلة النزوح كانت أطول وأقسى على عبد المنعم وأسرته من الصمود عاماً كاملاً في عيترون. علق منذ الظهيرة وحتى منتصف الليل على طريق الجنوب. نفد الوقود من سيارته إلى أن تبرّع له أحدهم بنصف تنكة ليكمل الطريق نحو صيدا. لكنّ الازدحام الخانق دفعه إلى ركن السيارة جانباً والنوم مع أسرته حتى الصباح. في اليوم التالي، لبّى دعوة أقارب شقيقته في حارة صيدا الذين قدّموا له منزلاً من دون أثاث. في صالة الاستقبال، فرشة صغيرة واحدة، فيما باقي الغرف فارغة. يسعى مستضيفوه لتأمين حاجات له، لكن بصعوبة، بسبب الضغط الهائل في صيدا، ما دفعه للعودة أمس إلى عيترون لإحضار حاجات من منزله من حرامات وثياب و«مرطبان الزعتر البلدي». تنظر نسرين إلى ما حولها وتثني على قرارها طوال العام الماضي بعدم النزوح: «ترك البيت مذلة، لكنّ الأطفال يكسرون أظهر أهلهم». مع ذلك، تجد ظروف نزوحها أرحم من نزوح أهلها في خلدة: «منذ أيام، ينامون على البلاط وينتظرون أقرب فرصة للعودة إلى عيترون».
تحتضن صيدا وحارتها آلاف النازحين من مختلف البلدات الجنوبية. بوابة الجنوب وجوارها لطالما شكّلت المحطة الأولى للجنوبيين في كل عدوان إسرائيلي منذ عقود. حتى مساء أمس، وبحسب لجنة إدارة الكوارث في اتحاد بلديات صيدا - الزهراني ، بلغ عدد النازحين حوالي 17 ألفاً في بلدات الاتحاد، منهم ستة آلاف في مراكز الإيواء في م
دينة صيدا، وبين أربعة آلاف وعشرة آلاف موزّعين بين المنازل والحدائق العامة. أما في بلدات الاتحاد الأخرى من الغازية إلى حارة صيدا وعبرا، فقد بلغ عدد النازحين منذ الإثنين 5500 في مراكز النزوح و4000 في المنازل. منسّق اللجنة عضو بلدية صيدا مصطفى حجازي قال لـ«الأخبار» إن الحاجات لا تزال أكبر بكثير من المتوافر، و«الاعتماد في دعم النازحين مرتكز على المجتمع المحلي ولا سيما في تأمين وجبات الطعام اليومية لمراكز الإيواء من قبل جمعيات وأفراد. فيما وعدنا برنامج الغذاء العالمي بإرسال خمسة آلاف حصة غذائية كدفعة أولى». أما مواد التنظيف والحفاضات وحليب الأطفال، فقد تمّ تأمين جزء قليل منها من وزارة الشؤون الاجتماعية ومنظمة اليونيسف. لكنّ «الكارثة»، بحسب وصفه، في تأمين الفرش والأغطية. فـ«من أصل ستة آلاف نازح في مراكز الإيواء، لا يزال هناك 3500 ينامون على البلاط منذ افتتاح المراكز الإثنين الماضي، بسبب قلة الإنتاج مقابل ارتفاع الحاجة والاحتكار»، لافتاً إلى أن هناك جهات «تضع يدها على كميات كبيرة من الفرش في المصنع مقابل دفع ثمن إضافي». ويعيد حجازي سبب الإرباك في تلبية حاجات النازحين إلى «الحدث المفاجئ والأعداد الكبيرة التي توافدت دفعة واحدة إلى صيدا».
مبادرات فردية وأهلية
بين طوابير السيارات العالقة في زحمة صيدا الإثنين الماضي، كان رامي الرفاعي ورفاقه في لجنة «شباب صيدا القديمة» يتنقّلون بين السيارات لتوزيع عبوات المياه والطعام على النازحين. الرفاعي، وبتكليف من التنظيم الشعبي الناصري، تسلّم إدارة مركزي الإيواء في صيدا القديمة اللذين يستقبلان حوالي 250 نازحاً. في عدوان تموز 2006، كان متطوّعاً في لجان الإغاثة في المدينة التي استقبلت عشرات الآلاف. النخوة الصيداوية لم تتغيّر. عشرات الشبان الذين ولدوا بعد عام 2006، يتنقّلون بين الأزقة لجمع التبرعات من أهلها: فرش وأغطية ووجبات طعام وأدوية. خارج صيدا القديمة، تكثر المبادرات الأهلية والفردية. متطوّعو مؤسسة التضامن الشعبي ومستوصف الشهيد رشيد بروم يتولّون تجهيز وجبات الطعام اليومية وإدارة شؤون مركزي إيواء. وبحسب مديرة المؤسسة سناء حشيشو، فإن حجم الاستجابة الصيداوية كبير لحملة التبرعات التي أطلقتها المؤسسة. فيما كان بلال البزري من متطوّعي حركة «النصر عمل» يجمع مع رفاقه منذ أشهر موادَّ غذائية وأساسية وتخزينها لاستخدامها في حال تطور العدوان كما حصل أخيراً. التجهيز المُسبق ساهم في تجهيز مطبخين، فضلاً عن جمع التبرعات لشراء الفرش والخبز.