أوراق سياسية

نزع سلاح المقاومة استسلام للهيمنة الإسرائيلية

post-img

حسن نافعة (الميادين)

الجولة الحالية من الصراع المسلح مع الكيان الصهيوني، التي أشعل "طوفان الأقصى" فتيلها يوم 7/10/2023، تختلف عن غيرها من الجولات من زوايا عدة، أهمها: طبيعة الأطراف المشاركة فيها، الفترة الزمنية التي استغرقتها، وساحات القتال التي امتدت إليها.

فمعظم الأطراف المشاركة هم فيها فاعلون من غير الدول، وعلى الرغم من امتداد ساحات المعارك وجبهات القتال إلى دول عربية كثيرة كلبنان وسوريا والعراق وفلسطين، بل وإلى دول عربية لم يسبق لها أن شاركت من قبل في أي من الجولات السابقة، كاليمن على سبيل المثال، فإن أياً من الجيوش النظامية للدول العربية لم يشارك في القتال.

إيران، وهي دولة غير عربية هي الوحيدة التي شاركت في القتال من خلال جيش نظامي، وذلك في سابقة لا مثيل لها في تاريخ الصراع. وتلك كلها سمات يتوقع أن تلقي بظلالها على المنطقة في المرحلة المقبلة.

ما تزال الجولة الحالية مستمرة لم تحسم نتائجها بعد، رغم توقف القتال في بعض الجبهات التي انخرطت فيه. فالقتال على الجبهتين الفلسطينية واليمنية ما زال محتدماً، بل وليس من المستبعد أن يستأنف من جديد على بعض الجبهات الأخرى التي توقف فيها، كالجبهات الإيرانية واللبنانية والعراقية. الجبهة السورية هي الوحيدة التي خرجت نهائياً من الساحة عقب سقوط نظام بشار الأسد، إحدى ركائز "محور المقاومة".

غير أن لنتنياهو رأياً آخر. فهو يعتقد أنه تمكن من حسم هذه الجولة لمصلحته على الصعيد العسكري، ولم يتبق سوى جني الثمار السياسية للنصر الذي تحقق. صحيح أنه يدرك أن الفصائل الفلسطينية المسلحة في غزة لم تستسلم بعد، وبالتالي ما تزال تقاتل ببسالة وتحتفظ بالعديد من الرهائن، وأن جماعة أنصار الله ما تزال قادرة على إطلاق الصواريخ والمسيرات، وأن إيران وحزب الله ما زالا يحتفظان بقدرات قتالية لا يستهان بها، لكنه يبدو واثقاً من تمكنه من تحقيق أهدافه الكاملة في النهاية، وعلى جميع الجبهات. 

للتعرف إلى طريقة نتنياهو في إدارة الجولة الحالية من الصراع المسلح في المنطقة، علينا أن نتذكر مسألة بالغة الأهمية، وهي أنه عثر في "طوفان الأقصى" على فرصة ثمينة لاستكمال مشروع "إسرائيل الكبرى"، وليس مجرد هجوم مسلح يجب الرد عليه بالوسائل المناسبة.

دليلنا على ذلك أمران: الأول، ما ورد على لسانه في مقابلة أجرتها معه قناة i24 الإسرائيلية منذ أيام قليلة، قال فيها بالحرف الواحد: "أشعر أنني مرتبط برؤية إسرائيل الكبرى، وأنني مكلف بمهمة تاريخية وروحانية للعمل على تحقيقها"، والثاني: خريطة حملها معه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول / سبتمبر 2023، أي قبل أيام معدودة من "طوفان الأقصى"، تعكس تصوره لـ"إسرائيل الكبرى" المهيمنة ليس على كل فلسطين التاريخية فحسب وإنما أيضاً على أجزاء واسعة من مصر والأردن وسوريا والعراق والسعودية.

ولأن نتنياهو كان على علم مسبق بتفاصيل ما جرى بالفعل يوم 7/01/2023، لا يستبعد بعض الباحثين أن يكون قد تعمّد استدراج جميع الأطراف إلى مواجهة اختار توقيتها بنفسه، لاعتبارات تتعلق بطموحاته الشخصية والأيديولوجية. وبصرف النظر عما قد يكتنف هذا النوع من التحليلات من مبالغة أو شطط، فإن ما يجري على أرض الواقع يقطع بأن أهداف نتنياهو الحقيقية لا تقتصر على "هزيمة حماس واستعادة الرهائن" وإنما تتسع لتشمل تغيير معالم الشرق الأوسط على نحو يضمن هيمنة "إسرائيل الكبرى" عليه في المستقبل المنظور.

ربما تكون حماس قد تسببت في إشعال فتيل الجولة الحالية، لكن رد فعل نتنياهو تقطع بأنه أراد تحويله إلى فرصة للتخلص نهائياً من "محور المقاومة" في المنطقة، باعتباره العقبة الكأداء التي تحول دون تحقيق الانتصار النهائي والكامل للمشروع الصهيوني.

ولأنه يعتقد أنه حقق نصراً عسكرياً على كل الجبهات، وبالتالي انفتح أمامه الطريق لتحقيق "النصر المطلق"، فمن الطبيعي أن يركز جهده الآن على محاولة فرض شروطه السياسية على جميع الأطراف، ما يفسر مطالبه الخاصة بتصفية برنامج إيران النووي، بما في ذلك حرمانها من تخصيب اليورانيوم على أراضيها، وتقليص برنامجها الصاروخي إلى الحد الذي لا يشكل أي تهديد لأمن الكيان، وتجريد حزب الله من سلاحه. أما مطالبه الخاصة بالفصائل الفلسطينية المسلحة فلا تقتصر على تجريدها من أسلحتها فحسب، وإنما تشمل أيضاً خروج قياداتها من قطاع غزة ومن الضفة وترحيلهم إلى خارج فلسطين. ولأن ترامب يوافق على هذه المطالب، يبدو نتنياهو على ثقة تامة من أنه سيقدم له كل ما يلزم من دعم لتمكينه من تحقيق جميع أهدافه في المنطقة، حتى لو احتاج إلى العودة للقتال على هذه الجبهة أو تلك.

لكن نتنياهو لا يعوّل على الولايات المتحدة وحدها، وإنما يعوّل على أطراف عربية يطمح في أن تساعده على أن يحقق بالوسائل الدبلوماسية ما عجز عن تحقيقه حتى الآن في ميادين القتال، خصوصاً على الجبهات الإيرانية واللبنانية والفلسطينية، وهنا مكمن الخطورة التي تستدعي توخي أعلى درجات الحذر والحيطة.

لدى إيران ما يكفي من القدرات الذاتية ومن التحالفات الدولية ما يسمح لها بالدفاع عن مصالحها والتصدي للمخططات الصهيونية والأميركية، أما الجبهتان اللبنانية والفلسطينية فقد أصبح وضعهما في المرحلة الراهنة هشاً إلى درجة غير مسبوقة، ما يستدعي من جميع الدول العربية التحلي بأعلى درجات الحكمة واليقظة في الوقت نفسه. 

فعلى الصعيد اللبناني، بدأ التوتر يخيم على الجبهة الداخلية عقب إقدام الحكومة اللبنانية على اتخاذ قرار بتكليف الجيش وضع خطة لحصر السلاح في يد الدولة في موعد أقصاه 31 آب/ أغسطس الحالي، ثم عرضها على مجلس الوزراء لمناقشتها في جلسة تعقد يوم 2 أيلول/سبتمبر القادم. ولأن حزب الله رفض هذا القرار، إذ أعلن أمينه العام، الشيخ نعيم قاسم، أنه لن يسمح بنزع سلاحه انصياعاً لإملاءات أميركية وإسرائيلية حتى لو اضطر إلى خوض "حرب كربلائية"، فقد بدأت بعض القوى اللبنانية المرتبطة بالمصالح الأميركية والإسرائيلية تسعي كعادتها لانتهاز الفرصة المتاحة و"الصيد في الماء العكر" لحشر حزب الله في زاوية، بدفعه إلى الاختيار بين القبول بنزع سلاحه أو تحميله مسؤولية التحريض على إشعال حرب أهلية جديدة. صحيح أنه لا يمكن لأحد على الإطلاق أن يشكك من حيث المبدأ في شرعية الدعوة إلى حصر السلاح في يد الدولة، فمن دون حصر السلاح في يدها لا تستطيع أي دولة فرض سيادتها، ومن ثم تفقد أحد أهم مقوماتها.

لكن الإشكالية في الحالة اللبنانية أن الدولة غابت لفترة طويلة جداً، عجزت خلالها عن حماية حدودها وتحقيق الأمن لمواطنيها، ما سمح لـ"إسرائيل" باستباحتها مراراً وتكراراً، حتى من قبل أن يوجد حزب الله الذي لولاه لما تحرر الجنوب اللبناني عام 2000.

ولأن معركة التحرير لم تنته بعد، إذ ما تزال "إسرائيل" تحتل أجزاء من الأرض اللبنانية، يجب أن يكون واضحاً في أذهان الجميع أن القضية الأساسية لا تتعلق بما إذا كان ينبغي لحزب الله أن يسلم سلاحه للدولة اللبنانية، فهذا أمر لا يحق لأحد التشكيك فيه، ولكن متى وكيف يمكن أن يحدث ذلك.

وللتوصل إلى صيغة تساعد على طمأنة جميع الأطراف وعلى إزالة المخاوف المترسبة عبر حقب وممارسات طويلة، ليس هناك من سبيل آخر سوى الاتفاق على خطة ملزمة للجميع، تبدأ بانسحاب "إسرائيل"، باعتبارها الطرف المعتدي الذي يحتل أرض الغير، مروراً بترسيم الحدود مع كل من سوريا و"إسرائيل"، وتنتهي بتسليم حزب الله سلاحه إلى الدولة اللبنانية، ولكن في إطار عملية متفق عليها لبناء جيش وطني قادر على حماية كل لبنان، الأرض والشعب، واستيعاب كل العناصر القادرة على حمل السلاح واستخدامه، من كل الطوائف والتيارات من دون تمييز. 

أما على الصعيد الفلسطيني فالوضع يختلف إلى حد كبير. فـ"إسرائيل" تصر على استخدام آلتها العسكرية الجهنمية، من ناحية، وحرب التجويع والإبادة الجماعية، من ناحية أخرى، للضغط على الفصائل الفلسطينية المسلحة للقبول بنزع سلاحها وخروج قادتها من القطاع. ولا شك أن نجاحها في تحقيق هذا الهدف، وفي هذه المرحلة بالذات سيؤدي إلى تصفية القضية الفلسطينية نهائياً وإلى الأبد.

فالسلاح الفلسطيني المقاوم لن يسلم في هذه الحالة إلى دولة، لأنه لا توجد دولة فلسطينية، وإنما إلى قوات دول عربية تثق فيها "إسرائيل" وترتبط معها بعلاقات "طبيعية"، تسند إليها مهمة إدارة قطاع غزة لمرحلة مؤقتة، من دون أي ضمانات حقيقية لقيام دولة فلسطينية في المستقبل، وهنا مكمن الخطر.

لذا، يجب أن لا يسلم السلاح الفلسطيني المقاوم إلى أي جهة أخرى غير الجيش الذي يفترض أن يشكل اللبنة الأولى في بناء دولة فلسطينية مستقلة، وهو العنصر الذي ما زال غائباً حتى الآن، من الصعب تصور حدوثه في ظل حكومة إسرائيلية كتلك التي يقودها نتنياهو حالياً، ما يوجب على الدول العربية أن ترفض بشكل قاطع الموافقة على تشكيل قوات تتولى إدارة قطاع غزة مؤقتاً إلا إذا تم ذلك بتكليف من مجلس الأمن، وبقرار يصدر استناداً إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، متضمناً خطوات محددة لإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من حزيران عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وجدولاً زمنياً تلتزم الدول دائمة العضوية مجتمعة بتنفيذه.

نجاح "إسرائيل" والولايات المتحدة الأميركية في نزع سلاح المقاومة الفلسطينية واللبنانية، وفي إنهاء برنامج إيران النووي وتحجيم برنامجها التسليحي يعني تصفية القضية الفلسطينية تماماً ويعني كذلك أن الدولة الفلسطينية لن تقوم لها قائمة أبداً، لا الآن ولا في المستقبل المنظور أو البعيد، كما يعني أن المنطقة برمتها ستخضع حتماً للهيمنة الإسرائيلية، فهل هذا هو ما تريده دول عربية تتنافس الآن على لعب دور الوسيط في الصراع الذي كان يسمّى آنفاً "الصراع العربي -الإسرائيلي؟ 

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد