لطيفة الحسيني (العهد)
عينُ الجميع اليوم على الجيش اللبناني وقيادته. رهانٌ وتعويلٌ على دوره في أكثر مراحل لبنان حساسية منذ الحرب الأهلية، بعد أن قرّر مجلس الوزراء وضعه على رأس الآليات التنفيذية لعملية حصر السلاح ولا سيّما سلاح المقاومة. صحيحٌ أن الضغط الخارجي غير مسبوق على الجهات الرسمية اليوم، غير أن الأمر يبدو مضبوطًا الى الآن لدى المؤسسة العسكرية.
المؤشرات الواردة من اليرزة لا تبعث على القلق. في المواقف العلنية، أبدى قائد الجيش العماد رودولف هيكل حرصه على عدم استفزاز أيًّ من المكوّنات الأساسية في البلد، كما أبلغ رئيس مجلس النواب نبيه بري في لقائهما في 12 آب الجاري، بعد عودته مباشرة من بريطانيا حيث كان في مهمّة رسمية.
العماد هيكل الذي لم يكن حاضرًا في جلسة الحكومة في 5 آب الشهيرة بسبب سفره، حطّ أيضًا في السراي الكبير، حيث التقى رئيس الحكومة نواف سلام في 15 آب الجاري، لبحث ما جرى وما كُلّفت به المؤسسة العسكرية.
تلتزم قيادة الجيش الصمت الإعلامي في هذه المرحلة، وهو الأداء الذي عُرفت به في الأصل. لا يُعلَن إلّا ما يجب في بياناتٍ واضحة وجازمة. بالنسبة للشعب، العماد هيكل ليس معروف الأسلوب بعْد، فلم يمضِ على تنصيبه سوى أشهر قليلة، وتحديدًا في 13 آذار 2025.
من هنا، يُطمئن أحد رفاق العماد هيكل، الذي خدم سابقًا وإيّاه في فوج المغاوير، وعرفَه عن قُرب لسنواتٍ طويلة، أن قائد الجيش يتحلّى بشفافية كبيرة في عمله وأدائه، يسعى لأن تكون قطعته الأفضل، إن كان بمستوى سرية أو كتيبة، يلتزم بأوامر القيادة، وهو لم يتوانَ عن تنفيذ أيّ طلب أوكل إليه في فترة ما قبل تعيينه كقائد للمؤسسة العسكرية.
بحسب العسكري "العتيق" ورفيق السلاح، البناء على الناحية الوطنية في شخصية العماد هيكل مُجدٍ وصائبٌ تمامًا، فالرجل عندما تولّى مسؤولية قيادة منطقة جنوب الليطاني (قطاع جنوب الليطاني)، نجح في نسج علاقات مع سكان المنطقة وأحزابها وبلدياتها وفعالياتها الاجتماعية، وظلّ على تواصل تامّ مع قياداتها السياسية -حزب الله وحركة أمل- تسهيلًا للعمل، ولا سيّما أنه لم يكن لديه في ذلك القطاع قوى عسكرية بإمرته، بل مجموعة اسمها قطاع جنوب الليطاني، فيما كان على تماس أكثر مع قوات الطوارئ الدولية "اليونيفيل".
يُذكّر الرفيق العسكري بأن العماد هيكل كان ممّن عانى حين أُصيب الجيش بنكسة التفرقة خلال الحرب الاهلية، وانقسم ما بين ألوية في المنطقة الشرقية وأخرى في المنطقة الغربية. ويمكن القول إنه تأثّر كثيرًا بالعقيدة التي أسّسها ورسّخها قائد الجيش السابق العماد إميل لحود خلال ولايته لناحية دمْج الألوية بما يعكس الصورة الحقيقية للتركيبة الوطنية، أي تنويع الطوائف في الألوية والكتائب، والتأثير الأكبر كان في العقيدة القتالية التي أدخلها العماد لحود منذ التسعينيات للمرة الأولى في تاريخ الدولة اللبنانية، عندما كرّس العداء لـ"اسرائيل" قاعدة أساسية ضمن كتاب موحّد للجيش يُصنّف "إسرائيل" عدوًّا خلافًا للمرحلة السابقة حين كان يُشار الى الجيش الصهيوني بالعدو فقط دون تسميته كاملًا "العدو الإسرائيلي"، وهذا ما أصبح نهجًا ثابتًا يُطبّق في كلّ أوامر العمليات والمهمّات والتدريبات التي ينفّذها الجيش إضافة الى البيانات الرسمية.
تشرُّب هذه العقيدة ظهر بوضوح في خطابات العماد هيكل، وخصوصًا في المقاربة التي قدّمها في جلسة الحكومة في 17 نيسان الماضي، حين تحدّث بشكل مُفصّل ودقيق عن خروقات العدو والإجراءات الأمنية المتّخذة بعد الترتيبات المتعلقة بوقف الأعمال العدائية، مشيرًا وقتها الى تعاون القوى الموجودة على الأرض معه، كذلك السكان، مسمّيًا حزب الله وكل الأحزاب التي لها وجود سياسي في قرى جنوب النهر. في هذا العرض، لم يبدّل العماد هيكل تسمية العدو "الإسرائيلي"، ظلّ مُتلزمًا بها ما أثار استياء بعض الوزراء المعروفين بخياراتهم الاستسلامية أمام الصهاينة، وهذه التسمية أيضًا أكمل بها العماد هيكل أمام الموفدة الأمريكية مورغان أورتاغوس في أحد اللقاءات التي جمعتهما.
وعليه، أعادت تجربة العماد لحود اللحمة والوحدة الى الجيش بعد نكبة قاسية عاشها بسبب الحرب الداخلية والصراعات الدامية التي مرّ بها لبنان في السبعينيات والثمانينيات. بتقدير رفيق السلاح، العماد هيكل لن يُفرّط بهذه القاعدة الوطنية الراسخة، والرجل لا يقبل استنادًا الى أخلاقيّاته ومبادئه والتزامه العسكري أن يضع المؤسسة في مواجهة مكوّن في البلد، لأنه من الدّاعين الى حماية الجيش من الأخطار المُحدقة.
ويرى مُحدّثنا أن العماد هيكل سيلتزم بحكم القانون بقرارات السلطة السياسية مع تملّكه هامش المناورة بصفته رئيس المؤسسة العسكرية، لذلك قد يذهب الى سيناريو مراسَلة الحكومة بجواب مفاده أن على المستوى السياسي تحديد الهدف، لأن هذه المهمة تقع على عاتقه، أمّا التنفيذ فيقع على عاتق المؤسسة المرهون بالإمكانيات المتوفّرة لديها وحتى في الجنوب. وكلّ أجواء اليرزة تجزم وتحسم المشهد: الجيش لن يصطدم مع الشعب أو مع أيّ طائفة.