أوراق إعلامية

إنّه زمن الحروب... والانكشاف أيضًا: عن البقّاق «ميغافون» نتحدّث

post-img

يفتح الموت المجال للصمت أن يسود. ليس الرثاء، والنحيب، والارتباك وحتى السهو الشارد سوى علاماتٍ لهذا الصمت. في أثناء الغوص في الحداد، يلجأ المرء إلى التعبير عن الوحشة والغياب بالصمت وعبر اللغة المتبعثرة التي تشتق منه. غير أنّ هناك من لا يهمه الموت ولا يهتم لأمر الميّت. لحظة الدفن عنده وقت إثارةٍ؛ إنها لحظة مناسبة لإحياء الميت كما تمليه عليه مخيلته البغيضة. هكذا تتحوّل لحظات الحداد إلى مناسبةٍ للاحتفال الصاخب، وينوبون عن العزاء، الذي يشترط الصمت، بغرفٍ صغيرة يملأونها بالنميمة، وبالثرثرة، وبكثرة الكلام. من يمتاز بهذه السمة، يقال عنه بقّاق. البقّاق هو من يتكلم كثيرًا ويحب المبالغة إذا ما تكلم، وهو نمّام ومفسِّد، ولأنه كذلك فهو عادةً من يكشف الأسرار.

لم يحن بعد موعد تشييع الشهيد السيد حسن نصرالله، ولم يتعيّن بعد مكان التعزية حتى الآن، ولكن هذا لم يمنع «ميغافون» من الانزواء في تلك الغرف الصغيرة التي تعج بالألسن القميئة لتأدية دور البقاق. لأن الألسن مليئة باللعابٍ الأصفر بقدر ما يعتريها الجفاف والتعطش للكلام، نشرت «ميغافون»، والتسمية بالعربية تعني بوق ضخم، البارحة ليلًا تقريرًا صحافيًا عن السيد حسن نصرالله، وصحافيًا يعني التعريف بالسيد نصرالله لمن يريد التعرّف عليه بالأجندة التي تنحاز إليها «ميغافون» في التعريف به.

زمن الحروب هو في وجه من وجوهه زمن الانكشاف. السيد نصرالله الذي قتل في بيروت، في مسقط رأسه وليس في فنادق أوروبا والخليج العربي، جراء غارة إسرائيلية ليس بشهيدٍ عند «ميغافون». هو مجرد حسن نصرالله الذي ولد في العام 1960 وقد اغتالته إسرائيل بعد قيادته للمقاومة لمدة 32 عامًا. لحظة الحداد عند من لا يهمهم أمر الميّت هي اللحظة المناسبة للصخب؛ وعند «ميغافون» هي لحظة مناسبة للتفريغ عن مكبوتٍ لطالما عبّر عن رغبته بمناكفة «السلطة»،

هكذا يستمد المأزوم هويته معلنًا عن نفسه بوصفه دون كيشوت العصر؛ يناكف «السلطة» مثلما يحارب دون كيشوت طواحين الهواء. إذا كان الموت - القتل- استشهادًا بالفعل لحظة مهيبة، والمهيب عند «ميغافون» صنوّ السلطوّي، فستجد «ميغافون» في ضربها هيبة القتل/ الاغتيال شكلًا من أشكال «الاحتجاج» والتفلّت من «هالة آسرة»، ولو كان الثمن الاضرار بالمهنية الصحافية. فكلمة شهيد، الغائبة في تقريرها، لهي بالأصل كلمة مدوية كونها تدل على بطولةٍ، وعلى الفقدان؛ على بطلٍ فُقد، ثم فإن ورود صفة شهيد لهو بمثابة نعي. غير أنّ نعيّ هذا الرجل ممنوع.

على أن تجريد قائد المقاومة من صفة الشهادة التي كان أمينًا لها، يشي ببهجة اعترت قلوب محرري التقرير ولا ينقص أصحابها سوى تهنئة القتلة. البطاقة التعريفية عن السيد نصرالله التي قدمتها «ميغافون» في تقريرها ما هي سوى قائمة لحساب طويل يريدون تصفيته. انها لحظة مناسبة للصخب؛ البقَّاق يعترف بأنّ «حزب الله» حرر الجنوب مرتين (2000 و2006). الثرثرة تشترط أن تكون الجملة الأولى حقيقية، هكذا تحوز على اهتمام المستمع ثم تدسّ له السمّ. في تقرير «ميغافون»، يشهر البقَّاق موقفه السياسي الكامن على الطرف النقيض من موقف السيد نصرالله، ويمارس السياسة أيضًا كتمرده على حقيقة الموت استشهادًا.

تمر في بداية التقرير الجملة الخالدة التي أدلى بها السيد في العام 2006، تلك الجملة المؤلفة من ثلاث كلمات، لكنها كما عبّر عنها أحد الأصدقاء تضاهي كل ما كتبه مثقفون وأدباء التطبيع، «انظروا إليها تحترق» ليليها الخبر التالي: «بقنابل خارقة للتحصينات، وبخرق استخباراتي فاضح، اغتالت إسرائيل حسن نصرالله». يطوف المكبوت عند «ميغافون» ويفسح المجال لفانتازيا لطالما راودت المنصة أن تتحقق : اغتيال السيد نصرالله ولو رمزيًا، في نسفها لبطولته ولأدائه الملحمي، وفي تثبيط حالة المتلقي حيث تصوير جملة «انظروا إليها تحترق» كأنها غدت فاقدة للبلاغة، وأننا إذا ما استعدناها الآن، فإنها تبدو ركيكة كون إسرائيل استطاعت محو ملحمة لم يستطع أحد تدوينها من قبل بـ«قنابل خارقة للتحصينات» وبـ «الخرق المخابراتي الفاضح».

ليس تقرير «ميغافون» عن السيد نصرالله سوى إدانة وتقريع لسيرته، ومسيرته، ولدور حزب الله السياسي. سادت عادة في عالم الصحافة تنصّ على احتفاظ المحررين في الجارور على نسخ ومقالاتٍ كتبت تحسبًا، وللمستقبل، عن شخصياتٍ سيغيبها الموت. لم تمارس «ميغافون» تلك العادة ولم تتكبد عناء كتابة أي شيء جديد، بل ارتأت النبش في الجوارير الرديئة وإعادة نشر ما سبق وورد في مقالاتها ونصوصها السابقة، وهي اجترارٌ لمقالاتٍ ونصوصٍ تكتب منذ العام 2005.

تحت عنوان فرعي «سيرة نصرالله في الداخل اللبناني» الذي يكاد يغلب على مضمون التقرير برمته، نجد الحزن نفسه الذي أصابهم عقب موت رفيق الحريري والتذكير بأنّ «حزب الله» متهم بقتله، مثلما نجد، كذلك، اتهام حزب الله بمقتل ذاك الذي يدعى لقمان سليم. على أنّ البقّاق وهو الذي يفرط بالمبالغة، يحبّ الاسراف في التشكيك، فإن تقرير «ميغافون» مليء بالتوّجس والريبة من الكثير من الأحداث التي حصلت مثل 7 أيار وانتفاضة 17 تشرين حيث التعامل مع تصاريح حزب الله وسرديته جاءت على أساس أنها ادعاءاتٍ.

عند «ميغافون»، المقاومة التي «عرفت لحظات من المجد» والكثير من الإنكسارات مثل مقتل عماد مغنية وهادي نصرالله، جعلت السيد نصرالله يكسب شعبية كبيرة، وفي حياته فضّل «الوقوف إلى جانب منظومة الفساد»، وأطلق النار على المدنيين اللبنانيين في أحداث السابع من أيار، بل إنّ «جبهة الإسناد» التي استشهد لأجلها، هي اختراع من اختراعاته. نتعرف مع «ميغافون» على حسن نصرالله الشرير، هو شخصُ يمتاز بسمات الأشرار التي تصورها سينما هوليوود ومسؤولو بيت الأبيض، وبينما هي لحظات عزاء، فإنّ «ميغافون» تصرّ أنه لا يجب على أحد الشعور بالحزن والرثاء، وإذا ما أذعن أحد أمام لحظاتٍ كهذه، فقد زودته «ميغافون»، على طريقة المخبر الملعون، بملف السيد نصرالله الذي يقف حائلًا أمام أي ذكرى أو دور «إيجابي».

لكن، مرة جديدة، زمن الحروب هو زمن الانكشاف، فما كان مستترًا ومختبئًا في طيات المكتوب، وما كان يلمح إليه غمزًا، بات في تقرير «ميغافون» واضحًا ومكشوفًا. يطلعنا التقرير أنّ من كان يقاتلهم «حزب الله» في سوريا هم عدوّ «من أسماهم بالتكفيريين». يشكك البقّاق في كون الجماعات التي حاربها حزب الله تكفيرية، بل يرفض هذه التسمية. فالنصرة وداعش وأخواتهما، على ما يبدو، هم متن «الثورة السورية» التي تزعم «ميغافون» أنّ حزب الله دخل لقمعها ولتأصيل «ديكتاتورية الأسد» على سوريا، لكن حزب الله جعلهم هامشًا مثل عبارة في جملة وقد تمّ زجها داخل علامات اقتباس. هذا إن أردنا فهم المدلول الحقيقيّ لما أرادت «ميغافون» إعلامنا به، فبين الجماعات التكفيرية وبين حزب الله، يفضّل البقّاق الأولى على الثاني، والحال، إنه ينتمي إليها.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد