أذكُر أنهُ لم يزُرنا ولو لمرّة واحدة، لكنهُ مع ذلك لم يُغادِر بيتنا. لم نعِش طفولة فيها أبطال من نجوم السينما تُضاهيه، كان بطلًا يفوق أيّ بطل آخر. حسنًا بالطبع يوجد بعد أبطال الكرتون والأفلام الذين عشنا معهم ونحن أطفالا، لكن في النهاية نحن لدينا السيد حسن عبد الكريم نصر الله، أو كما نُحبّ أن نُسمّيه اختصارًا، «السيد حسن» أو «أبو هادي». بطلًا، صورته وصوته ونبرته وابتسامته وترهيبه للقادمين لقتلنا، كلّها حاضرة بيننا ومعنا.
«السيد عم يحكي، وطّوا صوتكم، بدنا نعرف شو بده يصير أو «بدنا نعرف شو صار». يربِط أباك يديه خلف ظهره، يتربّص في مكانه، ويكرّر النداء: «السيد عم يحكي». هذا خطاب لا يُمكن أن لا يُسمَع، كُلّ كلمة لا يُمكن تفويتها، هذا خطاب السيد، يُحدِّد المصير. تتعوّد أن كُلّ شيء يظهر على التلفزيون في كفّة، وهذا الرجُل في كفّة أُخرى. كُلّ كلمات الساسة والرؤساء والمُحلّلين في مكان، وهذا الرجُل في مكان آخر. ترى العيون تتلألأ فرحًا عندما يكون السيد فرحًا وتلمع العيون دمعًا عندما تكون في السيد غصّة. هذا رجُل تتمايل معه الأمزجة وتذهب حيث يذهب الأفكار، بطل ولا كُلّ الأبطال، الأطفال في الشوارع يلفظون اسمه ويهلّلون، والشيوخ في البيوت يحكون لك عن أمجاده وبطولاته مع نظرة في البعيد، ثُمّ في صورته على الحائط، تليها تنهيدة، ثُمّ كلمة واحدة: «الله يحميه».
تشعُر أن أيًا كان من يُحدّثك عنه، كأنهُ يتحدّث عن كنز، عن مُلكية ثمينة، تروح لوجودها والحفاظ عليها النفوس فداءً. «مهم السيد بخير»، هذا ما تسمعه في بيوت جنوب لبنان خاصة. فدونًا عن كُلّ البيوت الأُخرى، تعرفه بيوتنا في الجنوب جيدًا، كيف لا وهو الذي أعادنا إليها؟ كيف لا وهو من وقف منذ عام 1982 حتى عام 2000 تاريخ تحرير البِلاد وعودة أهل الجنوب إلى بيوتهم وحرّر أسراهم ورزقهم وزرعهم وأراضيهم وبيوتهم، وهو من دعاهم عام 2006 «لينظروا إليها وهي تحترق». هو كابوس المُحتلّ الذي صنع مأساتهم، هو الذي تُلاحقه استخبارات العالم أجمع لتقضي عليه، لا لأنّ تسريحة شعره أو عباءته تزعجهم، بل لأنهُ وقف حجر عثرة طوال حياته في وجه مشروع قضم وضمّ جنوب لبنان إلى الكيان الصهيوني، وقف حجر عثرة في وجه جعل بيوتنا وأراضينا وأرزاقنا وأرواحنا مُستعبدة ومُستباحة. كيف وبعد ذلك، في بيوت الجنوب وشوارعها لا تسمع «روحي له الفداء». كيف لا تقول لك تلك المُسنّة الجنوبية من خلف التنور والزيتون والزعتر والتبغ «الله يخليلنا السيد».
السيد حسن أسطورة، ولم يُصبِح كذلك في بيوتنا لأنهُ ذاك الخارق البعيد الذي لا يُمكن التشبُّه به، بل على العكس من ذلك، أبو هادي أسطورة لأنهُ يُشبهنا، لأنهُ منّا ومثلنا ومعنا، لأنهُ ابن الأرض والطين والشارع، يفهمنا ويفهم لغتنا ويعرف ــ بعد تعرّضنا للقصف والترويع من العدو الوحشي الذي لا يعترف بقانون أو عُرف ـــ ما الذي من شأنه أن يُعيد إلى هؤلاء وقارهم. السيد قوي، يعرف كيف يُخاطِب عالمًا لا يعترف سوى بالأقوياء. ابن الأحياء الشعبية والخُبز الذي يكدّ في سبيله العامل والمزارع والموظف يومه كُلّه. ابن الحواري الذي كُتب اسمه على حيطان الأزقّة والزواريب وعُلّقت صورته في كُلّ زاوية وعلى كُلّ حائط، لا لأنهُ بعيد ولا لأنهُ شخصية من الخيال، بل لأنه الواقع وفيه وعبره يكون المنطق بحسب بيوت جنوب لبنان كافة. يراه الأطفال كبطل يتطلعون إلى التشبّه به، والكبار يرونه ناقلتهم من ذلّ إلى عزّ، والشباب كافة يرونه ذاك الذي قادهم نحو النور، الثورة على الظلم والهوان والخضوع لجبابرة الأرض، ثورة ضد الخضوع للوحشية التي شكّلت عالمنا، فالسيد بمنظور الثائرين علم من أعلامها. ثورة تفجّرت في وجه نظام عالمي يأخذ منّا أرواحنا وقصصنا وتاريخنا ويقتل كُلّ حياة فينا.
في عصرية، حلّ الظلام، السيد حسن راح. كيف نستقبِل هكذا خبر؟ حسن عبد الكريم نصر الله اغتالته إسرائيل؟ أوّل ما خطر في ذهن شعبه بعد النحيب والخسارة المُفجعة والصادمة هذه، أوّل سؤال: من سيشرح لنا ماذا حصل ويحصل وسيحصل يا سيد؟ من سيقف ليخاطبنا ويقول لنا كيف نتحرّك؟ من ننتظر؟ هؤلاء بعد أن ينتهي ألمهم، من سيقف ليُخاطبهم ويقول لهم: «يا أشرف الناس». هكذا يُفكّر شعب الجنوب والضاحية وبيروت والبقاع وكُلّ شريف يخاف على أرضه ورزقه وكرامته في منطقتنا. ذاك الذي لم يغِب عن بيوتنا يومًا، كيف يغيب في لحظة حرجة كهذه من تاريخنا؟ كيف يغيب في أوج حاجتنا إليه؟
منذ خبر الرحيل، والناس في البلاد لا تعرف كيف تستقبل هكذا فاجعة، أنصدّق أم أنّ الخبر للتضليل؟ هل رحل السيد فعلًا أم تنتظرنا أخبار مفرحة عنه قريبًا؟ هذا الجدل أو الوهم الذي ينشأ حول شخصية تملك هكذا مكانة ليس جديدًا، دائمًا ما حدث. شخصية مثل السيد يرفض شعبها تصديق موتها، لأنها زرعت عبر أعمالها مكانة في أعمق مكان داخل النفس، شخصية تبدو خالدة، ويريدها من عاشها وعايشها وعاش معها أن تكون خالدة. شخصية مثل السيد لا تبكيها عيون الجنوبيين فقط، بل إن دمعًا على شخص عايشناه وعشنا معه ونعتبر أنّه هو الذي أعادنا إلى بيوتنا مرفوعي الرأس، ليس دمعًا عاديًا، وليس حزنًا على فقد، بل هذا دمع وحزن أيتام. حزن من فقدوا رافعة حياتهم وأمانهم وأباهم وعمودهم الفقري. وهي حرب، شنّها العالم علينا، على كراماتنا، على وجودنا، على قيمتنا كبشر، على «الفرق» الذي يُشكّله موتنا في صيرورة العالم. وهي حرب نخوضها، لكرامتنا، لوجودنا، لقيمتنا كبشر، لأن لموتنا «فرقًا» ولأننا لسنا أرقامًا. وبذلك، وعلى ذلك، أن لا يُحدِّد العالم قيمتنا من عدمها، نُحارِب كما حارب السيد. فلن نقول السيد مات، السيد في كُلّ حجر وكلمة وصاروخ يقِف في وجه استعبادنا.