مثل أولئك الأبطال في الأساطير الإغريقية، يمشي إلى موته وفيه شيء من الألوهة ليس يخفيه، ليس القدر فحسب يجتمع عليه والمحن الاثنتي عشرة كما في حكاية هرقل، أو جنّيات البحر والعواصف كما في أسطورة عوليس، بل أساطيل الدنيا وطائراتها وصواريخها وشذاذ آفاقها، والسفلَة والجهلَة والخونة والشامتون والقاسطون والمارقون وبيّاعو الأوطان والأعراض والكرامة..
«مات المناضل المثال، يا مية خسارة عالرجال»، استشهد سيد الرجال، كأن تلك الجملة من رثاء الشيخ إمام لغيفارا تتردد في كل حي وزقاق ودسكرة من بلاد العرب المنكوبة والمكلومة، تصل أزمنة الرجال الذين آثروا مصارع الكرام على طاعة اللئام، فماتوا غرباء وطوبى للغرباء. لكن على مثلهم فلتبكِ البواكي، ولينظر الأطفال إليهم كما ينظر المقهورون إلى أيقونة العذراء، أو صورة الحسين بعينيه الكبيرتين، يخرج منهما نور ونار، ووعدٌ للذين استضعفوا في الأرض. يموت البطل في نهاية الأسطورة الإغريقية، لكن محنة محبيه تنتهي بتضحيته وتكون بذورًا لوردة صعبة تخرج من تحت رماد موته. كيف نظر الكتّاب والشعراء والمثقفون إلى استشهاد «السيّد»؟ نستعرض في «كلمات» ما قيل ــــ على فايسبوك أو عبر نصوص أرسلت إلينا ـــ في رحيل البطل الذي عاش في يومياتنا منذ ثلاثين عامًا ونيّف، وزرع في لا وعينا ووعينا على حد سواء أن الهزيمة ليست قدرًا، وأن ذلك الاستكبار والطغيان والعدوان لا بد زائل، مثل تلك البارجة و«انظروا إليها ستحترق»...
جمع الشهادات: محمد ناصر الدين ومهدي زلزلي
◄ لحية فدائية حرّرت الجنوب كله
سليم البيك
أعود إلى لقطات أرشيفية، له بلحيته الفدائية، بسواد عمامته وغضبه الذي حرَّر كل الجنوب «خاوة»، ثم أعود إلى ابتكاره اسم «حيفا» بحلّة أجمل بوصلها بـ «إلى ما بعد». أعود إلى مَشاهد وخطابات كانت مكوِّنًا أساسيًا لوعي معنى الحق والطريق إليه، أعود إلى قرطة الراء لديه، الأكثر فصاحة وإفصاحًا عن الراء وعن اللغة السليمة السالمة لفظًا ومعنى. يتعلم أحدنا من طلّاته ما يقول وكيف يقوله، بالنبرة الهادئة لأبي هادي، بالإحكام والمتانة في الكلام العامي المرتجَل، بالنظرة الصّقرية والحاجبين النسريّين، بالخاتم الكريم في إصبعه، باللحية حسنة التشذيب، وكاد عطرها يفوح عن الشاشة.
روائي وصحافي فلسطيني
◄ آخِرُ الرفضة
علي وجيه
في هذا اللقب راء، وأنتَ ألثغُ، لثغةٌ أحلى حتّى من لثغة بنتٍ جميلة، وربّما أرادَ الله أن يمازحَكَ محبّةً، فأحاطَكَ بعناصرَ عدة، كلّ مفردةٍ فيها راء: الكرامة، الرفعة، الصواريخ، العرب، بيروت، إيران، واسرائيل، التي آليتَ على نفسِكَ أن تُقلقَ كلّ حروفِها، طوال أربعة عقود.
لكنَّكَ، أيها المربوعُ مثلَ جدّكَ أمير المؤمنين (عليه السلام)، كنتَ تتحدّثُ ببلاغةِ مَن يمتلكُ خمسين حرفًا، بصوتٍ يشقُّ الصمتَ كما تهبطُ سكّينٌ على منديل، وكنّا نعلمُ أنّ كلّ خطاب منكَ موتٌ مسموع، في مستوطنات اللقطاء، الفزعين وهم يُترجِمون ما تقولُهُ.
أربعونَ عامًا وأنتَ الصداعُ للقطاء الذين يقفُ معهم العالم كلّه، وأنتَ تُطعِمُ الموتَ أخاك، وابنَكَ، وأصدقاءكَ، وجنودَكَ، في حواري الجنوب الفقيرة بكلّ شيء، إلا الكرامة والرفض، أيّها اللبنانيّ الوحيد الذي لا تلطّفُ لهجتُهُ حدّةَ ما يقول.
منذ أن هبطَ الخبرُ على رؤوسنا، وأنا أراكَ محظوظًا عجيبًا، يا أبا هادي، ما هذا الحظّ العجيب؟ لا أحدَ يحقّقُ أحلامَهُ لهذه الدرجة، أن يقاتلَ عدوَّهُ أربعين عامًا، ثمّ يكون مؤثرًا، ليحفرَ اسمَهُ في سجلّ أبطالٍ لا يُحفَرُ الحرفُ فيه ببساطة، ثمّ تمدُّ سجّادةَ صلاتك، وتنزلُ جبهتُكَ الكريمةُ على تراب كربلاء، وتبكي على الحسين في محرّم، ثم تختتمُ هذه الحياة الباسلة بالشهادة، يا لهذه الطريق الرائعة، يا لهذه الختاميّة الخالدة، التي رغبتَ بها منذ أن كانتْ لحيتُكَ سوداء، حتى ابيضّت، من دون أن تتعبَ يمينُكَ من الكلاشينكوف، ولا اليسار من التوجيهات.
إنّه زمن الـ«بلى»، والـ«لبيك» للقطاء، لهذا كانتْ لاؤكَ حادّةً على آذانهم، أحرجتَهم كثيرًا أيّها الرجل الأخير، لم يكونوا ليقولوا «انظروا، الكلّ لا يواجه»، كنتَ الحجرَ الأسودَ في الجدار المريض، الذي يفضحُ تباينَ الألوان، بلائِهِ ورفضِهِ.
يا كبير الرفضة، يا ابن الجبل القاسي، ويا دمعةَ الطفّ الخالدة، صدقًا لا أرى رملةَ كربلاء إلا متصلةً بصوّان الجبل، وإن حلَّ حبيبُ بن مظاهر عمامته، فلا يهمُّ إن حلَّها أمام خيمة الحسين أو في الأنفاق بالضاحية، وأنّ السهمَ المثلّثَ المسمومَ ينطلقُ انطلاقةً واحدة من سهم ابن الطلقاء ومن الطيران الغاشم، لكنّهم لا يفهمون علاقتنا مع الموت، وأنّ الخسارةَ الآنيّة، كما هم يرونها، هي الربحُ العظيم، الأخلاقيّ، الخالد، مثلما أنّ جدّكَ لم يفزْ بمعركته عسكريًا، لكنه فاز بكلّ شيء.
أنتَ خرقتَ المعادلة، لم تكن مظلومًا وشهيدًا فقط، لكنكَ كنتَ قائدًا ومنتصرًا، أطعمتهم صحون الهزيمة والذلّ والانكسار لسنوات طويلة، كما لو كنتَ تمتلكُ موكبًا للتنكيل، لتذكيرهم دومًا أنّكَ رافضيّ كما يجب، وأنّكَ ذو الفقار ألثغُ يشطرُ مرحبًا نصفين في كلّ منازلة، وأنّكَ غطّيت بعباءتك عورةَ العرب، حين وقفتَ مع غزة هاشم، وأنّكَ كنتَ الحائط الأوّل ضدّ مَن وُجِدَ كي يلتهمَ البلدان، ويقتل الأطفال والنساء.
يا مَن يُضافُ الله إليه باسمه، ولا يُعطَفُ إلا على الفتح قرآنيًا، يا حاء الحسين، وسين السؤال، والنون الذي لا يجفّ، سيتلقّاكَ نبيّكَ وجدّكَ ببردته، وسيحتضنكَ الأمير، وستسقيك جدّتكَ الزهراء من معين الفردوس، وسيصطحبكَ الحسن والحسين ليرياك تلك القافلة الخالدة من الأكارمِ، من مالك الأشتر إلى «أبو باقر» و«أبو تقوى»، ومَن بينهما حين يغفلُ «مقاتل الطالبيين» عن ذكر أسمائهم، تلك التي تشرّف الأبجدية، والتأريخ، والأرض.
عشتَ جبلًا، واستشهدتَ رافضًا ومقاومًا، فالسلامُ على كلّ شعرةٍ من لحيتك، وعلى كلّ خيطٍ من عباءتك، وعلى كلّ حرفٍ نطقتَ به فزُعزعت قلوبهم خوفًا، وعلى كلّ صاروخٍ أضاء ليلهم وكان رجومًا للشياطين.
السلام عليكَ منذ بكائكَ الأوّل في مهدكَ، حتى اطمئنانكَ الأخير، ونسأل الله أن تتشفّعَ لنا يوم نردُ إلى الكوثر، وإنّا على فراقكَ محمّرو الأعين، مجمورو الأفئدة، لكن والذي جعلَكَ هامةً بيننا، لا يُدانيها جبلٌ ولا يصلُ لها صقرٌ، لن تنقلبَ «لاؤكَ» إلى «نعم»، ولو كان شياطينُ الأرضِ لبعضِهم ظهيرًا.
اذهب إلى الفردوس يا ابن الزهراء، فقد تعبتَ كثيرًا، وكفّيتَ ووفّيت ما وعدتَ به هذه الأرض.
يا آخر الرفضة الكبار، نحنُ بعضك، شكرًا على كلّ شيء.
* شاعر وإعلامي عراقي
◄ وعدكم بالنصر ولم يكذب
تميم البرغوثي
كان على صواب، وكنتم مخطئين، وما نقمتم عليه إلا ما اضطررتموه إليه حتى لم يجد منه بدًا، ولم أجد في سير العرب والعجم رجلًا أشبه آباءه مثله، وإن من يشتمونه أو يشمتون به اليوم مثل من شمتوا بآبائه وشتموهم على المنابر من قبل، هم غبار على شعاع الشمس لا يزيده الا تجليًا، ولا يُلتَفَت إليهم في هزيمة ولا نصر، هو القصة كلها، هو القدس في عمامة، وآيات من القرآن تمشي على قدمين وتبتسم للناس… وعدكم بالنصر، وهو لم يكذب عليكم، فإن صدّقتموه… فبأيديكم أنتم سيصدق وعده لكم.
* شاعر فلسطيني
◄ مقاوم عربي من الجنوب
ثائر ديب
بعد حرب تموز 2006،
كانت أول مرّة يمكنني فيها أن أقنع صغيري بأن يحبّ عربًا ويشعر أنّ بينهم أبطالًا ومنتصرين.
كان قد شاهد إذلال الآخرين للعرب في بغداد وجنين وغزّة...، وكان قد سمع باعتقال عرب لأهله سنوات ظلمًا وعدوانًا وسفالةً. وارتبطت فكرة العربي في ذهنه بالذلّ والإذلال والهوان والهزيمة الدائمة.
بعد حرب تموز 2006،
كانت أول مرّة يعزف فيها صغيري عن أخذ دور الجندي الأميركي الذي يمحق كل ما يقف في طريقه في الألعاب الإلكترونية، ويختار لعبة بطلها مقاوم عربي من الجنوب.
ينتصر في النهاية، حيًّا وميتًا، من كانت بوصلته فلسطين.
في اليوم الثالث لاستشهاد قائد حرب تموز وتحرير الجنوب اللبناني:
كل الاحترام أيها القائد الكبير،
بات صغيري الذي كبر، واثقًا من جدارة العرب الأحرار بالنصر، ولو كبوا، وواثقًا من تحرير فلسطين.
* طبيب ومترجم سوري
◄ كان أبًا وصديقًا
فادي قوشقجي
ليس من السهل أن تكون يساريًا جدًا، ومعجبًا بالسيد حسن نصر الله جدًا جدًا. ستجد دومًا من يسألك: كيف؟ كيف «زابطة» معك؟
والحقيقة أنها «زابطة» معي بسهولة، فما اليسار في جوهره سوى فعل تحرير وتحرر وعدالة وانحياز مطلق إلى الناس العاديين، وبالتحديد الفقراء منهم؟ وما اليسار في جوهره إن لم يكن مستندًا إلى الأخلاق في أبعادها الاجتماعية والوطنية والأممية؟
أوليس هذا، كل هذا، ما كان يفعله ويمثله شهيدنا الكبير؟
«وتلك الأمور المهمة الأخرى التي ستختلف فيها - حتمًا - مع مشروع ديني؟ ماذا عنها؟»
«محلولة». كنت أرد! مع قائد مثل السيد حسن نصر الله ستكون «محلولة». فإذا استثنينا بعض الخطابات الحماسية في فترة شبابه المبكر، التي تجاوزها تمامًا وتخلى عنها منذ صار أمينًا عامًا للحزب، فقد أثبت الرجل قدرته على العيش والتعايش مع المجتمع بصيغته اللبنانية العصرية التعددية. كان منفتحًا ودودًا محبًا للحياة وللمزاح والضحك وذا حسّ تهكّمي جميل ولاذع. عندما ننتهي من التحرير، سيكون سهلًا أن تجلس معه للتوصل إلى صيغة حول المجتمع الذي نريد، أو، سيكون من اليسير أن تتنافس معه سلميًا تحت سقف الانتماء إلى هذه الأرض وهذا الشعب. الشعب الذي عاش (ثم استُشهد) من أجله.
كنتُ طفلًا في الثالثة من عمري حين رحل جمال عبد الناصر، لذلك لم أبكِه، وصغر سني وقلة إدراكي هما السببان الوحيدان أنني لم أبكِه، فالرجل يستحق الكثير من الدموع. بالتالي يمكنني القول إن السيد حسن نصر الله هو الزعيم الوحيد في العالم الذي بكيتُه بحرقة ومن كل قلبي. كنتُ قد نشرتُ نصًّا عنه على الفايسبوك قبل دقائق من صدور بيان الحزب الذي أعلن استشهاده. أرسلتْ لي صديقة عزيزة الكثير من القلوب فور قراءتها للمنشور، ثم قالت: «لكن بيان الحزب صدر للتو». تركتُ كل شيء وأخذت أقرأ بيان الحزب، وانهمرت دموعي بحُرقة. كان هذا هو الفقد الكبير الثالث في حياتي بعد وفاة أبي قبل عقدين ونصف، وبعد رحيل صديقي الأقرب قبل سنتين ونصف!
وهذا ما كانه السيد حسن نصر الله: أبًا وصديقًا!
* سيناريست سوري
◄ لروحك العظيمة نرفع الأنخاب
العادل خضر
لم تنكّس الأعلام في تونس. لم يكن حسن نصر الله رئيس دولة حتّى نعلن الحداد الرسميّ عليه. ولكنّ خبر موته الذي تأكّد رسميًّا في الثامن والعشرين من شهر أيلول (سبتمبر) نزل علينا، نحن التّونسيّين، بإحساس من تلقّى طعنة غادرة في الخاصرة. يوم صعقنا خبر موت الشّهيد إسماعيل هنيّة، لم يحدث شيء في شوارعنا ولا في مقاهينا الشّعبيّة. فقد تبلّد إحساسنا من فرط الأخبار والصّور الكارثيّة التي تنقل فظاعة الحرب في غزّة. لم نعد نقوى على الحزن. تتجوّل في الأسواق العتيقة، تسمع اسم حسن نصر الله يرفرف على الشّفاه، بعض المقاهي علّقت صورته. كنّا جميعًا نعرفه. وأحببناه في صمت. وكان شخصيًّا يحيّرني. رجل يلبس جبّة رجل الدّين، ولسانه لسان الثوّار، وتفكيره كتفكير القادة المحاربين، يذكّرك عنفوانه بياسر عرفات وتشي غيفارا. لا يهمّ إن كانت تجوز المقارنة أو لا تجوز، الأهمّ أنّه كان دائمًا مع فلسطين ونصير الفلسطينيّين، والرّجل الأخير الذي حارب الكيان الصّهيوني بقلبه ولسانه وصواريخه. كان حجم اغتياله بحجم الأذى الذي ألحقه بهم طوال عقود.
في المقاهي الشعبيّة لا تخفت الأصوات العالية إلا إذا كان المتكلّم في مصافّ الأبطال. تلوح من حين إلى آخر صورة حسن نصر الله في «التلفزيون». يخيّم الصمت حتّى لا تفوتنا كلمة. كان لساننا النّاطق بما في قلوبنا من غضب. اليوم سكت لساننا. قل في حسن نصر الله ما شئت. أمّا تاريخ الصّامتين سيكتب: عاش الرّجل شريفًا ومات شريفًا. من الأرز اللّبناني نصنع السّاكي الياباني. لروحك العظيمة نرفع من كلّ مكان في الأرض الأنخاب.
* رئيس اتحاد الكتّاب التونسيين
◄ تسقط الأجساد لا الفكرة
عثماني الميلود
سنة حزينة حصد خلالها الغدر الصهيوني أرواحًا طاهرة ومناضلة وطموحة ومتحرّرة؛ أرواح صنعت المستحيل من أجل أن تجعل حياة شعوبها أفضل وأرقى، ومن أجل أن تعلم الأعداء دروسًا لن ينسوها إلى أن تلفظهم الجغرافيا ويمجّهم التاريخ وتتبرأ منهم الإنسانية جمعاء. الصهاينة يتوهّمون أنهم إذا اغتالوا الشخص اغتالوا الفكرة، وفكرة الحرية أشبه بالحريق أو النشيد إذا اندلع لا يتوقف أبدًا. هذا ما ظنوه حينما اعتدوا على روح الشيخ حسن نصر الله.
الفقيد حسن نصر الله رجل عاش في الخفاء والتكتم ولم يكن طالب حياة بل طالب جهاد وشهادة لهذا لم يتوانَ لحظة عن الدعوة إلى تحرير العالمَين العربي والإسلامي من الاستعمار، وإلى صياغة ميثاق شرف إنساني تُعاد فيه الحقوق إلى أصحابها والجغرافيا إلى أبنائها والتاريخ إلى أصحابه. وأحرار هذين العالمين متيقنون بأن جرائم الاحتلال لن تقتل الفكر الحر والمؤمن ولن تزيد المقاومة الفلسطينية واللبنانية إلا إصرارًا وتصميمًا واستمرارية. المقاومة فلسفة وجود وطريق إلى الحرية وروحها خفاقة وأبطالها عاشوا شامخين وتوفوا رائعين. الرجل يموت لا ريب، ولكن الفكرة دائمة وقائمة إلى يوم الدين.
* ناقد مغربي
◄ الرجل الذي لا يموت
عبد القادر أبو حبيب
كلنا يذكر تلك الانتصارات التي كنت - مع رفاق الصمود - تصنعها على ناصية كل مناضل قومي، والأحاديث التي كنت تصنعها كانت تدور بيننا كأنها تعويذة سحرية، تجعل كل شيء يبدو ممكنًا مع المقاومة. كنتَ دائمًا هناك، تقدم للقوميين الدعم، وتُعرض عن المتخاذلين عندما تتحسّس في ضمائرهم الارتخاء والوهن، كنا نشاركك الأفراح والأحزان؛ لكننا الآن، نجد أنفسنا نبحث عنك في كل إذكار، في كل مكان كنا نتردد عليه نكرر معًا شعار «استمرار المقاومة»، والمناداة بإسقاط التطبيع مع «إسرائيل»، بوصفها دولة إرهابية. نستمع إلى نشيد «على قد رجالها الأرض» الذي كنا نستمتع به، ونشعر بأن خطاباتك الحماسية تذكرنا ببطولاتك.
أحيانًا، يتمنى المرء لو كان بإمكانه العودة إلى تلك اللحظات السعيدة، لنخبرك كم كنت مهمًا بالنسبة إلى المناضلين، بخاصة القوميين العرب. لكننا نعلم أن الكلمات لن تعيدك إلينا، ولن تعيد إلينا شِدَّة الانْدِفَاع وَحِدَّته الصامدة. لقد علَّمنا الفراق درسًا قاسيًا عن قيمة المقاومة، وعن كيف يمكن للحياة أن تتغير في لحظة. أنت الآن في دار البقاء، بعيدًا من آلام هذا العالم. لكننا سنظل نحملك في قلوبنا دائمًا. سنحتفظ بذكرياتنا مع خطاباتك النضالية ككنزٍ ثمين؛ لا يمكن لأحد أن يأخذه منا. سنستمر في الحديث إليك في صمتنا، وفي صَخبنا، ورواياتنا، وسنظل نبحث عن إشارتك في كل ما فعلته من جدوى في حق المقاومة.
لقد ترك فقدك فراغًا لا يمكن ملؤه، لكننا نعلم أنك ستظل معنا دائمًا، بروحك الشامخة، وبابتساماتك الساخرة حين تتقصَّد صغار الهِمَّة، وبتجهُّمك حين تكون حادًّا مع المواقف الجادة التي لا تُنسى. وداعًا أيها البطل الشهيد، لقد كنت شخصية محورية في تاريخ لبنان الحديث، حين ارتبط اسمك بالمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي وبالصمود في وجه التحديات. كان وجودك يحث على الوحدة والصمود، ويزرع الأمل في قلوب اللبنانيين والعرب. ورغم رحيلك، سنظل نردد صدى أفكارك في كل زاوية من زوايا الوطن: «نحن هنا».
لقد تركت لنا إرثًا من المقاومة والصمود، وعلّمتنا أن الأمل لا يموت. وفي هذه اللحظة الحزينة، نتذكرك ليس فقط كقائدٍ عسكري، وسياسي محنَّك، بل كإنسانٍ عاش من أجل قضية، وكرمزٍ للمقاومة التي لا تنكسر، وحتى وإن سقطت القيادات؛ فإن جبهة الصمود والمقاومة ستستمر في مواجهة التحديات، مستلهمةً من روحك وشجاعتك معنى الصمود.
ستبقى يا شهيد المقاومة حيًّا في قلوبنا وعقولنا؛ ولن يكون رحيلك نهايةً لقضيةٍ آمن بها الملايين، بل بدايةً لفصلٍ جديد من الصمود والتحدي.
* ناقد جزائري
◄ شرارة النصر القادم
أحمد نزال
أقدم العدو على اغتيال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله معتقدًا أنه يمكن أن يثني المقاومة عن الاستمرار، متجاهلًا الأبعاد السياسية لهذا العمل، وناسيًا أن هذا العمل من شأنه أن يشد عزم المقاومين على الاستمرار في هذا النهج، الذي عمل السيد الشهيد على تكريسه وتمتينه في قلوب من عرفه وآمن بهذه القضية المقدسة.
إن استشهاد السيد حسن نصر الله هو شرارة النصر القادم، حفاظًا على حرية الشعب الفلسطيني وحقه في المقاومة وفي تقرير مصيره، فأطلق بذلك استمرار هذه الشعلة مضيئة حفاظًا على المقدسات الإسلامية والمسيحية، وحفاظًا على القدس، وصولًا إلى صون الحريات في العالم.
إن السيد الشهيد زرع بذرةً طيبةً لن ينتهي أثرها مدى الأزمان، وصولًا إلى التحرير الكامل والنصر المؤزّر بإيمان عميق ورؤية واضحة وبصيرة ثاقبة ستبقى نبراسًا تهتدي به الأجيال والشعوب.
* رئيس اتحاد الكتّاب اللبنانيين
◄ لمسة الروح الشجاعة
حسن م. يوسف
أؤمن عميقًا في نفسي أن كل كلمات الرثاء التي تكتب الآن بالقائد الشهيد السيد حسن نصر الله، بما فيها هذه الكلمات، ليست على مقاس قامته العالية، ولا من لون روحه السامية. ولو كان الصمت خيارًا لائقًا للذت به، ولجنّبت كلماتي محنة الدخول في ظل الشهيد الساطع أكثر من كل ضوء.
أعربت مرارًا عن قناعتي الشديدة وإيماني الراسخ بأنّ «إسرائيل» لا مستقبل لها هنا، وأنها ستكون مجرد أثر جرح في تاريخ منطقتنا، وقد كنت ولا أزال أستمد هذا الإيمان وهذه القناعة من وجود رجال أحرار في أمتي اقتلعوا الخوف من نفوسهم وأشعلوا أرواحهم كي ينيروا لنا الطريق، وعلى رأس هؤلاء القائد الشهيد الفذ حسن نصر الله.
لقد أبى شهيدنا السيد أن يقع حقنا على الأرض، فصاغ منه راية، زرعها في عقله وأعطاها خفق قلبه، وسطوع روحه.
قبل سنوات كتبت منمنمة بعنوان «لمسة الروح» نشرتها في كتاب «عبثًا تؤجل قلبك»، قلت فيها: «عندما تدفع الروح الشجاعة الجدار، يختفي! حتى الباستيل؛ أسمك جدار في التاريخ، تبخر، بلمسة بسيطة من الروح!».
* سيناريست سوري
◄ زادٌ للأجيال القادمة
فاتن المرّ
على الصعيد الشخصي فقدانه جرح كبير، لا يبدو أنه سيلتئم يومًا، فوجوده في حياتنا لا يشبه أمرًا آخر، هو الكبير القريب، قائدٌ ملهمٌ وفردٌ من العائلة، رفيق السرّاء والضرّاء، حاضرٌ بيننا حين تشتدّ علينا الأزمات، نركن إليه في ضعفنا وخوفنا، ويحرّك فينا نداء العز. من ضحكته نتجرّع الأمل ومن هدوئه نستمدّ قوتنا. يتعرف إليه أطفالنا ما إن يتعلموا الكلام وينشدون له الأناشيد... كيف سنخبرهم أن إنشادهم يمزّق أحشاءنا؟ وأنه لم يعد بيننا بل غدًا في عالم الأساطير. ألم يكن يومًا إلا أسطورة؟ لو لم نره أسطورةً لما فجعنا برحيله إلى هذا الحد.
أكتب عنه والجرح ما زال فتيًا، لاهبًا، وقد نحتاج إلى حقبة طويلة قبل أن نتمكن من النظر إلى استشهاده بموضوعية، أن نفكر به على مقياس الشعوب لا المجموعات الصغيرة أو الأفراد، أن نحلل أن ما قدّمه لنا يساوي ألف حياة، وأننا، وإن فقدناه، رابحون. فالأمم الحية تستمدّ قوتها النفسية من رجالاتها الكبار، قادتها ومفكريها وأدبائها وفنانيها. هم روح هذه الأرض التي أنهكتها الحروب والوطن الذي كاد أن يتلاشى لولا الأنوار التي أرسلوها لتبدّد الدياجير.
ما حدث يا سماحة السيد هو أنك لم تعد لنا وحدنا، نحن الذين قدّمتْ لنا الحياة هدية أن نكون من معاصريك، بل غدوت زادًا للأجيال القادمة، زاد قوّة وحقّ وخير.
* روائية لبنانية
◄ كان أمّةً
حليمة قطاي
«نحن لا ننهزم، حين ننتصر ننتصر، وحين نستشهد ننتصر»... كلماته ستظل تتردّد في كل حرّ ومقاوم، فقد عاش سيدًا للمقاومة في الأحياء، أبًا للشهيد، وقضى سيدًا للشهداء، فعلمنا أنّ الطريق الذي نمشي عليه نعبّده بثوابتنا وتصدقه خصالنا وفعالنا... لم يكن حسن نصر الله رجل موقف لأهله وعشيرته وضاحيته ولبنان فقط... بل كان أمة. التففنا حوله منذ فطرتنا الأولى في الوعي بالنضال والمقاومة... أذكر أننا في الجزائر وكل جيلي والأجيال التي تربّت على الخذلان والنكران، لم يكن لنا من خيطٍ يصلنا بالعزيمة إلا مواقف السيد؛ استنشقنا في بيوتاتنا حبّ نصر الله، والاعتقاد به قائدًا عظيمًا ثابتًا لنا نحن الذين عشنا زمنًا بلا قائد...
لا أزال أذكر حتى هذه اللحظة كيف اتخذنا، نحن الجيل المتعب بعروبته، عبارةً قالها حمدي قنديل في عام 2006 شعارًا لنا: «أنا سني لكن قائدي شيعي...».
لقد أصابنا ارتقاؤه بوجعٍ لا يرقع، وعني شخصيًا فقد استحضرت وفاة والدتي التي ربّتنا على مبادئه وعزّته وشموخه. أنا اليوم أوجّه إلى ألا نيأس ولا يخذل بعضنا بعضًا، وأن نعود إليه قائدًا وملهمًا؛ وأوجّه إلى خطبه الحاضرة فينا خير دستور للثبات والقوّة والعزيمة والاستمرار. يمرّ شريط التذكر... آية يصدقها خطابه ثمّ شهادته: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ». ثمّ تسمع صدى صوته يتردّد: «مهما كانت التضحيات والعواقب، فنحن لن نتنازل عن أهلنا في غزة، ولن نتنازل عن مقدّساتنا». صوتٌ إلهيّ يحققه الرصاص، وترسخه السواعد في الجبهات...
* شاعرة جزائرية
◄ كذبة موت السيد
مضر الآلوسي/ شاعر عراقي
زعمت الصهيونية أنها قتلت السيد حسن نصر الله في غارتها الجبانة، وأعلنت في بيان لها أنه تم التأكد من موته!
إنها كذبة كبيرة أخرى تريدنا أن نصدقها، كيف يموت الشهيد وقد قال الله تعالى: "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون"؟ ثم كيف يموت سيد الجنوب وما زال حيًا في قلوب وضمائر الملايين، وما زال صوته الهادر هاديًا للذين لم يلحقوا به إلى صراط النصر والفوز بالشهادة؟ كيف لهذا العربي الهاشمي المحمدي أن يكون سرابًا أو حلمًا يبدده نعيقهم؟
إنه الحقيقة التي حملت لواء الحق ضد الباطل، لواء النصر ضد المحتلين، لواء الشهادة في سبيل الله، دمت حيًا أيها المرتقي سلم الخلود، والموت والخزي للغادرين.
◄ حسنٌ نصرَه الله
سفيان بن عون/ روائي تونسي
نجح «السيّد حسن نصره الله» في استراتيجيته القتالية، واستطاع أن يعيد للبنان الشّريط الحدوديّ المغتصب، وأن يدحر العدو وعملاءه، وقد ساهم ذلك كلّه في تنامي الاهتمام به وشعور النّاس هنا، وأنا واحد منهم، بنشوة صغيرة ستكبر مع الأيام، نشوة شرعت في ملْء ذلك الفجّ العميق الّذي يسكن الرّوح، الإحساس بالانكسار والاندحار والعجز.. هناك في هذا العالم من ينتصر للحقّ الفلسطينيّ والعربيّ ولإنسانيّة الإنسان، ويدافع عن المظلوم وينصره. هكذا بدأنا نحفظ، أثناء تلك المواجهة التّي استرجع فيها الكثير من أراضي لبنان، أسماء قرى ومواقع لبنانيّة لم نكن نعرفها أصلًا: «عيتا الشعب»، «بنت جبيل»، «مارون الرأس».. وهكذا كلّما جدّ صراع في فلسطين كانت آلامنا معه تتجدّد. ولكنّ إطلالة «السيّد» ووعده ووعيده كانت تخفّف من أوجاعنا وآلامنا.. فكثيرًا ما تراجع الكيان عمّا كان يعتزم فعله وصار صوت حسن نصر الله شيئًا فشيئًا صنوًا للأمان عند الكثيرين وابتسامته بردًا وسلامًا على قلوب الملايين.. أخيرًا هناك من يعد ويصدق فعله.. لقد أصبحت المقاومة قادرة على الرّدع. وهي، إن لم تنجز غير ذلك، وقد أنجزت الكثير، فذلك كان ليكفيها إلى يوم الدّين.
في ذلك المساء الّذي كان بطعم الزّئبق تسرّبت إشاعة استشهاد «السيّد».. صدمت. ولكنّي قلت: أكيد أنّ الأمر مجرّد خبر كاذب. حاولت أن أشغل نفسي ولكنّ شيئًا ما في أعماقي كان يهتزّ. هاتفت أخي الأصغر، وكان يتابع أطوار ما يدور في غزّة والجنوب اللبنانيّ بشغف. أعلمته بالخبر. قال ضاحكًا: «مستحيل». طمأنني كلامه ولو إلى حين. ولكنّ تلك الليلة كانت طويلة جدًا. ومن الغد كان خبر استشهاد «السيّد» في كل وسائل الإعلام وعلى صفحات التواصل الاجتماعيّ.. هو اليتم من جديد يملأ هذا الفجّ العميق الذي بدأ يتكوّن من جديد في أعماقي. فكم يلزمك من الوقت الآن كي تتشكّل نشوة صغيرة جديدة في مكانه. رحلت «نصر الله» جسدًا، ولكنك باقٍ في قلوبنا حيًّا لا تموت، وسنراك كلّ فجر محلّقًا في سماء الحريّة، فأمثالك يتحوّلون إلى أيقونة لامعة في صدر التاريخ.
◄ هشّمت قلوبنا يا الحبيب
زينب سرور
أمّي لمّا تبلغ الخمسين. بعد فقدان الذاكرة المؤقّت، أطلعها للمرّة الثالثة على النبأ المشؤوم لرحيل الحبيب.
للحظة، أسرّيت لنفسي: نيالك يا امي لأنك لم تعلمي لساعات أنّ الحبيب راح والقلب تشلّع.
لساعة وأكثر مهّدت لها أننا فقدناه. كلنا يا ماما لا نريد التصديق. هذا في وعيي لا يرحل. لم يرحل. لا، لم يرحل.
سأمهّد مجدّدًا. أنزوي وأبكي. لا أريد شيئًا. ممارسة الحزن سرًّا. تلفت. هشّمت قلوبنا يا زلمي.