عامٌ مرَّ على الطوفان: «طوفان الأقصى» الأطول من طوفان التوراة. وما من منجى واضح منه بعد، ولا مرسى قريب له حتى الآن.وخلافًا للدراسات التوراتية الحديثة التي حدَّدتْ مرسى سفينة نوح في جبال كردستان تركيا أو أرارات الأرمينية، فإنّ النصوص البابلية والرافدينية تحدِّدها في العراق، بل إن المرويَّات والتفسيرات الشيعية تتبنى وفقًا لتلك النصوص فكرة أن «الجودي: مرسى سفينة نوح» في النجف، وأنّ الكوفة أول مدينة بنيت بعد الطوفان. وليس أدل على ذلك من تلاوة الزيارة لمقام الإمام علي التي تتضمن «السلام عليك.... وعلى ضجيعيك آدم ونوح» لأنّ نوحًا، بحسب تلك المرويات، نقَلَ رُفات جدِّه آدم معه ليدفنها في النجف ودُفن هو هناك بعد وفاته. وبما أنّ إسرائيل دولة استمدت عقيدتها من الأساطير، وهي أساطير رافدينية على أي حال، سيبدو المنظور الأسطوري مناسبًا لمقاربة أبعاد هذه الحرب الأطول من بين كل حروب العرب وإسرائيل منذ قيام الأخيرة، بل الأطول من كل حروبهما مجتمعة معًا.
في القصة- الأسطورة للطوفان، حكاية وعظيَّة عن كيفية خلق حياة جديدة، على أنقاض أخرى قديمة، وما عالم بعد الطوفان في الواقع، سوى تجسيد لرحلة انتقال من الموت إلى الحياة.
تجربة الطوفان نفسه تطهير سماوي بالمفهوم الإسلامي ومعمودية كونية بالمفهوم المسيحي، أكثر من مجرّد كونه عقابًا جماعيًا بالمفهوم اليهودي. لهذا، فسّره القديس أوغسطين تفسيرًا يجمع بين اللاهوتي والإنساني: بالقدرة على تحويل الموت إلى حياة. فرغم أنه أحلَّ بالأرض الدمار والموت، لكن الغرض منه كان محو الأرض حتى تُتاح إعادة إسكانها بالحياة من جديد.
وعبر رموز الطوفان: نوح وسفينته بما حملته من كائنات حية، يمكن مقاربته في عالمنا الحاضر بما تضمنته من نوعين محدَّدين: الغراب والحمامة. لكن من هم الغربان؟ إنهم أولئك الذين يسعون إلى طلب ما لذواتهم. ومن هم الحمائم؟ إنهم أولئك الذين يسعون ويطلبون ما هو للروح القدس، كما يعبّر القديس أوغسطين. والحق إنه منذ الأساطير البابلية ولا سيما في ملحمة كلكامش وتجلياتها التوراتية والقرآنية لقصة الطوفان، مثَّلَ الغراب رمزًا للخذلان والأنانية والخراب ومعادلًا للزيغ والارتياب. فقد ذهب الغراب الذي أرسله نوح مستطلعًا من سفينته ولم يعد، إذ وجد جيف الموتى والخراب فآنس لذلك، وأرسل الحمامة فجاءته بغصن زيتون رمزًا لحياة الجديدة.
مثل هذا النمط الشامل من القراءة، ينتقل بالمحدد والمقيد بزمن سابق من سياقه الثقافي والتاريخي والسردي، ليصبح كونيًا وأبديًا وقابلًا لاستيعاب صور لنماذج ورموز متعارضة في شتى الأزمنة: لكل ما يبقى حيًا من القيم الروحية السامية ومن بشر، ولكل ما يأنس للموت والخراب والعار عبر الرمزية المتعارضة للغربان والحمام في الأسود والأبيض. في جغرافيا طوفاننا (الشرق أوسطي) الذي بدأ من غزة هاشم (التي تخلّى عن نجدتها الهواشم!) كم من غربان مُسمَّنين بالفتات بالرفات ينتظرون الخراب من حولهم خلاصًا من مواجهة التحديات في لحظة مصيرية؟
أي حلّ لدولة لقيطة سوى الطوفان؟ دولة آلية غاشمة صادرت بحروبها حيوات أجيال وأحلامهم، وكل انتصاراتها في الإبادة والتدمير والخراب. مَنْ يُمكن أن تتيح له أخلاقه أن يكون في ثكنة قتل أميركية متقدمة، لا حياة لها خارج ميادين الحروب والخراب منذ قيامها إلى اليوم. ولا إنعاش لديمومتها سوى جرعات ثقيلة ومكثفة من أسلحة فتاكة تتقيؤها في كل مكان مثل وحش يلفظ أحشاءه في احتضاره.
مَنْ سوى غرب متوحش وغربانه المحليين من المحتفلين بوليمة الخراب والرفات؟
قبل أن تجد سفينة «طوفان الأقصى» مرسى لها وهي على مشارف عامها الثاني، انعطفت مسارات الطوفان وازداد غموض المراسي. وبلغ السيل الزبى، فأقدمت إسرائيل على اغتيال السيد حسن نصر الله. السيد بحق: فهو سيد في النسب وسيد في البلاغة والخطابة وارتجال الشعار. سيد حين يبتسم وحين يغضب، وحين يمسح عرق جبينه حياءً، وحين يفور دمه حماسًا في عروقه وينضح وجهه عرقًا من نوع آخر. سيدٌ في شدة بأسه، وزهده، وفي ملاحة ظرفه ومنطقه.
وقبل هذا كله سيِّد نفسه وخياراته وشروطه، عاش شهيدًا حيًا واستُشهد ليحيا.
أي ثأر مهما بلغتْ قوَّته ليس سوى شفاء لغليل صدور مكين وتعزية لمحبيه. لا ثأر يمكن أن يوازي قامته ومكانته وفقده. الثأر الحق أن يبقى الثائر الذي عاش بداخله حيًا بيننا. لقد أرادت إسرائيل باغتياله اغتيال الأمل، ولا خيار من بعده أمام الوعي الحر المقاوم سوى إحياء الأمل.
كان يمكن أن يكون مقتله في حرب تموز 2006، أو يمكن لإسرائيل اغتياله في السنوات التي تلتها. عندها كان سيصبح شهيدًا وطنيًا دفاعًا عن بلاده لبنان، وما كانت لذلك المقتل، رغم مجده، أن يرضي كُلَّ مجده، مثلما كان يمكن لغيفارا أن يموت (حتف أنفه وعلى فراشه الوثير في هافانا) وزيرًا بل الشخص الثاني في كوبا، لكنه رآه مكانًا لا يضاهي مكانته، فراح يبحث عن فسح أممية أرحب لمقتله في أدغال أفريقيا وجبال ووديان بوليفيا حتى أُعدم غيلةً هناك.
قد تبدو هذه رمزية أبعد وأعمّ لمقتل نصر الله، لكن رمزية استشهاده الأنسب هي الأقرب للتراث الذي ينتمي إليه. رمزية جمعت مدرسة الحُسَينين: الحسين بن علي إمام الثائرين، وبطل كلمات الرفض: «لا» و«هيهات» في زمن الخضوع، والحسين بن منصور الحلاج شهيد الزهد والثورة والعشق الإلهي. وإذا كان النسب والدم يجمع أبا هادي بأبي عبد الله، فإن أسرار العشق والدم تجمعه بالحلاج. قال أبو بكر الشبلي لمّا سُئل عن الفرق بينه وبين الحلاج: «كلانا عرف سرّ العشق، أنا كتمتُ، لكن الحلاج باح بسرِّ عشقه فقُتل». وقال عنه أيضًا: «قصدتُ الحلاج وقد قُطعت يداه ورجلاه وصلب على جذع فقلت له: ما التصوف؟ فقال: أهون مرقاه ما تراه. فقلت له: ما أعلاه؟ فقال: ليس لك به سبيل، ولكن سترى غدًا، فإنَّ في الغيب ما شهدتُهُ وغابَ عنك». بالنسبة إلى نصر الله، كانت القدسُ سرَّ العشق ولا طريق للسالكين طريقها سوى عشق الشهادة. والواقع أنّ كثيرًا من خطاباته تنطوي على لمحات عرفانية ذات بعد صوفي، ولا سيما تلك التي خاضت في تفسيرات الدين والتاريخ والتراث، مقرونة بعشق الشهادة حين يتحدث عن الحرب والقتال في سبيل ما آمن به. لقد تزود بـ«زاد الخلود» بتعبير المتصوفة الثائرين.
بالنسبة إلى الكثيرين هو رمز ديني، وبالنسبة إلى آخرين رمز طائفي. ولبعض البسطاء، لشدة صدقه، لا يصدقون إلا إنه ما زال حيًا (جسديًا وليس مجرد معنويًا كما نرى نحن) لقد أصبح أسطورة للانبعاث. ومن غير المستبعد أن يُشيعوا رواية عن أنهم رأوا صورته مرسومة على وجه القمر، أو رأوه متجولًا في إحدى المدن البعيدة الفقيرة!
بالنسبة إليّ، أرى صورته الرمزية أبعد مدى وأوسع طيفًا من عقيدة ودين وطائفة: صورةً رمزية للأحرار في كل العالم، ولبطل أخلاقي من الأبطال التاريخيين الذين يقتربون من الأبطال الأسطوريين حين قال «لا» كبرى في زمن امتلأت به الأرض بالأعداء، وبالخانعين الخاضعين. أولئك الذين «لم يَعْرِفُوا لَونَ السَّماءِ لِفرْطِ مَا انْحَنت الرّقاب».