أوراق ثقافية

7 أكتوبر مقاومةٌ بقامة ملْحمَة

post-img

1.

فلسطين المُشْمِسَة، من القدْس إلى حيْفا، ومن الخليل إلى غزّة، تتوسط الأرضَ من جديد. لم يكن ذلك في الحُسبان قبل يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، الذي جعل العالم ينْتبه إلى وجود فلسطين، أرضًا وشعبًا، لا ينفصلان. تلك هي فضيلةُ المقاومة التي أعادت فلسطين إلى مكانتها، بعد أنْ وصل الجبروت الإسرائيلي حدّ مسح اسم فلسطين من خريطته التي بَشّر، من خلالها، بشرق أوسط جديد، يدّعي الإقبال على إنشائه.

عامٌ من المقاومة.. حتى المنجّمون أخفقوا في التنبؤ بالبطولة المعْجزة للمقاومة الفلسطينية، على أرض غزة. هي معجزةُ هذه البطولة التي محتْ معجم الاستسلام، والتطبيع والتفوّق الإسرائيلي والتكنولوجيا القاهرة والشرق الأوسط الجديد، وأبْدلتْه بمعجم العلَم الفلسطيني ذي الألوان الأربعة، والكوفية، وكتائب المقاومة، وعبقرية الأنفاق، وحرب العصابات، ووحْدة فصائل المقاومة، والاستشهاد، والحاضنة الشعبية، وجبهة الإسناد، وتضامن الشعوب والأحرار. باكتساح المعجزة وسائلَ الأخبار والدعاية الكاذبة، تعرّف العالم على علم فلسطين والكوفية في ساحات العواصم والمدن والجامعات، من أوروبا إلى الولايات المتحدة، وفي بلاد عربية وإسلامية ارتفع العلم بخفقانه وسط الأعلام الوطنية، لتأكيد الوحدة. عامٌ كامل من مقاومة لا خضوع فيها للعدوان الإسرائيلي ـ الأميركي، متواصلًا بليالي الدمار والقتل ونهاراته. مشاهد الإفناء، هي وحدها التي يتباهى بها الاحتلال الإسرائيلي. وطيلة النهار والليل يبحث شعب غزة عن مكان آمن فلا يقابله سوى الجوع والعطش والقتل. والمقاومة تصرّ على الذي وحده يجب أن يكون، البقاء الحرّ على الأرض.

كنا، في المغرب، تعلمنا كلمة "المقاومة" من حركة التحرير الوطني ضدّ الاستعمارين الفرنسي والإسباني. شعارُها الاستقلال وتحرير الأراضي المغربية، التي أخضعتها الحماية لسلطة الدولتيْن الاستعماريتيْن. كان ذلك في بداية الخمسينيات. عندما كان المغاربة يسمعون، آنذاك، عن عمليات المقاومة كانوا يشعُرون بقرب حريّتهم، ومن أعماقهم كانوا يهْتفون. كذلك السابقون، الذين كانوا يتبادلون أخبار محمد بن عبد الكريم الخطابي في الريف، مبدع حرب العصابات، التي قاوم بها الاستعمار الإسباني في الشمال وحقّق بها انتصاره التاريخي في معركة أَنْوال، صيف 1921، فيما الفلسطينيون، الذين كانوا في بداية مقاومة الاستيطان اليهودي، كانوا يتابعون بشغَف أخباره، كما تعلّم منه الفيتناميون في الفترة اللاحقة.

 2.

7 أكتوبر. يوم بمفرده يؤرّخ لزمن البطولة الخاص، في العصر الحديث. يوم حرّية فلسطين. ومن 7 أكتوبر 2023 حتى 7 أكتوبر 2024. عام لا يُعدّ بشهوره أو أسابيعه، بل بساعاته ودقائقه. طيلة العام، ظلت المقاومة الفلسطينية واقفةً في مكانها. لا تراجع ولا تهاون. من الشّدائد العليا واصلت فعْلها الذي لخّصته في كلمة واحدة هي "الحرية". كلمة تختصر ما لا بد منه في تحقيق العدالة، أي استرجاع الأرض المحتلة، منذ 1948. كلمة "الحرية"، لدى حركة المقاومة الفلسطينية، ذات كثافة تاريخية ونفسية بعيدة الغور، حتى أصبحت طريقة حياة، بذائقة الخلود على الأرض الفلسطينية. بذلك أعطت المقاومة، خلال هذا العام، حالةً كاد العالم ينساها، في زمن الليبيرالية الجديدة، التي عرّت وحشيتها في إخضاع البشرية لما تريد أن يكون عليه العالم، سوقًا للعبودية والنخاسة، من غرب الأرض إلى شرقها.

ما أعطته المقاومة الفلسطينية بكلمة "الحرية" هو الفجْر الصّادق، لكل من لا يزال يعتقد أن الحرّية جذرُ القيم الإنسانية ومنبعُها. لهذا ارتفعت أصوات شعوب وشبيبة مناديةً بالعودة إلى قيمة العدالة ورفض العنف والدمار والقتل. نداءٌ من أعالي أسوار المقاومة، يرحل ليفتتح الآفاق. شعوب عربية وإسلامية أعلنت النداء إلى جانب شعوب وشبيبة غربية. جاء 7 أكتوبر بـ"طوفان الأقصى"، وجاءت المقاومة. هو الردّ على العدوان الإسرائيلي، الممتدّ منذ سبعين سنة، بما يحمل من احتلال الأراضي، ومصادرة الأملاك، ومحاصرة ومراقبة المدن والقرى، وفي مقدمتها قطاع غزة، وانتهاك حرمة الأماكن المقدّسة الإسلامية والمسيحية، بعنوان المسجد الأقصى الذي هو العنوان الأكبر لهذه الانتهاكات. وتجاوبت الأصواتُ ضد سلوك الغرب المنتصر لسياسة العدوان الإسرائيلي فيما هو يدوسُ القيم الإنسانيةَ التي كان ذات يوم أعلنها، وجعل منها علامة على تحضُّره وتمسُّكه بالحرية والعدالة والديمقراطية. لا شيء من ذلك، في التصريحات والأفعال. الغرب، اليوم، هو غربُ الاستعمار وغزو البلاد واستغلال الشعوب. غربُ اليمين الفاشي، الذي يناصر إسرائيل ليناصر نفسه، بالعدوان على الشعب الفلسطيني.

3.

لم تُعِد المقاومة كلمةَ فلسطين إلى مكانتها فحسب، بل فتحت أبوابَ كلمة "الحرية" على عهد جديد من أخوة النضال المشترك عبر جبهة المساندة، التي عملت بدورها على التذكير بأن المقاومة الفلسطينية ليست يتيمة، وبأن المساندة تتعاظم بأخوّة النضال المشترك. أقربُ معاني الأخوّة ما بادرتْ إليه المقاومة الإسلامية اللبنانية في التنبيه على واجب السيْر، يدًا بيد، مع المقاومة في صدّ العدوان على غزة. وهو ما أقدم عليه اليمن والعراق. عهدٌ جديد، لا شك، في زمن الاستسلام والتواطؤ من طرف الأنظمة العربية التي تُوجَد بغيْرها، الأميركي ـ الإسرائيلي ـ الأوروبي، لا بنفْسها، بعُبوديتها لا بحريّتها، التي ندمتْ عليها، أو ربما التي كانت دومًا عبئًا يضاعف الأعباء.

هذا الباب الذي فتحته المقاومةُ الفلسطينية يقود إلى التذكير المفصّل، المعْرفي، الموثّق، بتاريخ وما قبل تاريخ إنشاء دولة الاحتلال الإسرائيلي. إذنْ، لتبقَ الذاكرة يقظة. لأن الحركة الصهيونية تأسست ضد تاريخ مشحون بكراهية الغرب المسيحي لليهود. كما أنها حلّتْ بالأرض الفلسطينية في شروط الهيمنة الاستعمارية الفرنسية ـ الإنكليزية بعد الحرب العالمية الأولى، ثم الأميركية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. نعم، التذكير، بكل ذلك، ضرورةٌ، في عنفوان الحرب والعدوان وما وُوجه به من تضحيات لا تُُقاس إلا بعظمة الحرّية. "إسرائيل" والغرب والعرب المتواطئون يدركون أن إخْضاعهم للفلسطينيين، وللشعوب العربية ولجميع المناصرين للمقاومة الفلسطينية، يبدأ بمسْح الذاكرة التاريخية للمأساة الفلسطينية وتبديل معاني القيم الإنسانية. هذه وظيفةُ مؤسسات الدعاية الضخمة. ومساندة المقاومة تتوسّع باستحضارها. هنا، في فلسطين، ذاكرةُ الأرض والشعب الفلسطيني تؤبّدها المؤلفات والأعمال الأدبية والفنية والآثار، مثلما تُحْييها الثقافة الشعبية، في الغناء والقصص والسّيَر الشعبية والرقص واللباس والطرز والطبخ والخزَف والعمارة وآداب السلوك.

4.

عامٌ من وقاحة الغرب في الدفاع عن العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني في غزة ثم أخيرًا على الشعب اللبناني. للغرب مراتب. هناك الغربُ الأميركي الذي يبرّر، برتبته الأولى، المشاركةَ المباشرة، كلامًا وموقفًا وسلاحًا، في العدوان بتبديل معاني القيم، بعدم إزعاج الاحتلال، بالرواية الإنجيلية، وبمنطق "المصالح القومية" السيّدة، المكشوفة، من غير زخرفة بلاغية. وكان الغرب الأوروبي، طيلة العام، يضاعف من احتضان "إسرائيل" بأذرعه العسكرية وحواجزه القانونية وإعلامه المسعور. الوقاحة، هنا، تدل على الوجه العلَني في الفعل العدواني، والجرأة على تعمّد اختراع الأكاذيب وعلى تجْييش مشاعر الكراهية والحقد، ونكران واقع الحصار على غزة وإقامة المزيد من المستوطنات واستباحة الأماكن المقدسة، في وصف "طوفان الأقصى" يوم 7 أكتوبر. لغة الوقاحة يتقنها سادةُ الاستعلاء، الهيمنة، التفوق العسكري والإعلامي والتكنولوجي. هي اللغة التي يُشْهرونها في المحافل الدولية كما في مناسبات المُباهاة والتفاخر بدعم العدوان على الشعب الفلسطيني.

لكنه أيضًا عامٌ من مواقف وكتابات وندوات رائدة لدول وكتّاب ومثقفين وفنانين غربيين. ما ساهم به أوروبيون وأميركيون، من أصحاب النفوس الحرّة، أصبح ذخيرةً لإعادة قراءة زمننا وزمن العدوان الإسرائيلي. وكانت الدعوى التي رفعتها جنوبُ أفريقيا ضد "إسرائيل" أمام "محكمة العدل الدولية" استعادةً لذاكرة المقاومة، التي اغتنت بها حركاتُ التحرر في القرن العشرين.

5.

7 أكتوبر. دليلٌ على عام من المقاومة والاستشهاد. هذا التلازم بين الفعليْن يبني واقعًا حيًا ومتفردًا، في حروب التحرير التي خاضتها الشعوب، بغية الوصول إلى الفرح بالاستقلال. وهو يبني، في غزة، قامة الملحمة التي يكتبها الشعب الفلسطيني في قلوب المساندين والمتضامنين ونفوسهم، بدم الشهادة والألوية المرفوعة في سماء الحرية. وهو، أيضًا، عامٌ من المقاومة الإسلامية في لبنان التي مدت اليد إلى اليد الفلسطينية في غزة، وفاءً نبيلًا لتحقيق قيمة الحرية على أرض غزة ومقاومةً لأيِّ مساس باستقلال لبنان وتمجيدًا لحرية اللبنانيين.

يدّعي الاحتلال الإسرائيلي، منذ إنشائه حتى اليوم، أنه يختار السلام. ادّعاءٌ ماكر. كذب يتوارى لينكشف باختيار سياسة الميْز العنصري ضد الشعب الفلسطيني وإتقان إبادته. لكنه لا يريد أن يفهم هو، ولا شركاؤه الغربيون ولا المتواطئون العرب، أن الشعب الفلسطيني يسعى، بثبات المقاومة، إلى تحقيق الحرية. هي مقاومة بقامة ملحمة، يتوقف عندها الفلسطينيون واللبنانيون، ويتوقف مؤيدوهم من الأحرار في العالم. نصبٌ مرفوعٌ في فلسطين. نشيدٌ بعد نشيد.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد