«أعترف بأن الرقابة العسكرية تطلب منّي كتابة أشياء غير صحيحة من أجل إخفاء أشياء معينة لأسباب أمنية»، يأتي هذا التصريح لمراسل إذاعة «جيش» العدو الإسرائيلي دورون كادوش أول من أمس بعد شهر على بداية العدوان الإسرائيلي المباشر على لبنان ومحاولة العدو التعتيم على مجريات المعركة على الأرض في الجنوب اللبناني وإخفاء خسائره وقتلاه عن أعين العالم. لا مشاهد وفيرة ولا صور دقيقة ولا تحديد منطقيًا لأعداد القتلى والجرحى حتى مع أقسى الضربات التي وجهتها المقاومة، إلا فيما ندر، اللهم باستثناء مقاطع مصوّرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو ما سُرِّب طوعًا أو قسرًا من قبلهم.
منذ نشأتها، حرصت «إسرائيل» ـــ في كل حرب خاضتها ـــــ على الحفاظ على الصورة الذهنية لدى الرأي العام العالمي حول مجريات الحروب وخسائرها فيها، ما يحررها من الضغوط الشعبية من جهة ويحافظ على هالة «الجيش الذي لا يُقهر»، فيمنحها إنجازات وهمية من جهة أخرى. لكنها في الوقت نفسه، كانت تتغنى دومًا بطبيعتها «الديموقراطية» التي تتمايز عن محيطها في قلب الشرق الأوسط، غامزةً من قناة ديكتاتورية الأنظمة العربية وشموليتها وتفنّنها في القمع. وبينما كان الغرب يصدّق روايات العدو لسنوات ويتبنى سردياته الإعلامية والتسويقية، حلّت على هذا الكيان لعنة الخسارات المتتالية، حتى غدا التغني بالشفافية وحق الوصول إلى المعلومة مجرد ترف لم يعد بمقدور الكيان الادعاء بامتلاكه.
في النسخة الجديدة من الكيان الغارق بدمويته الذي يعيش «أزمة نهاية العمر» منذ السابع من أكتوبر من العام الماضي، يتضح أنه يجسّد بوضوح صارخ هذه المرة لاءات ثلاث في التغطيات الإعلامية: «لا للنشر»، «لا للشفافية» و«لا للمصداقية». كأنّ كل معلومة جديدة ينشرها الإعلام الإسرائيلي تترافق مع عبارة «سُمح بالنشر» من ضمن المشهد الكامل الذي لن يعرف الآخرون حقيقته ومفاعيله. ففي أحيان عدة، يبدأ الخبر العاجل بعبارة «حدث صعب في الشمال»، ثم يصغر بشكل يدعو إلى السخرية إلى حدود ثلاثة جرحى جراء التدافع! هذا التعتيم الإعلامي الذي يمارسه العدو يتمحور حول عقيدة الإنكار التي توفر على واقعه كثيرًا من المحاسبة والاعتراضات الداخلية والهدايا المجانية لأعدائه الذين يحققون إنجازات لا يجب أن يصل إلى مسامعهم رجع صداها.
التعتيم الإعلامي مصطلح يشمل رقابة تامة أو شبه تامة على الأنشطة العسكرية في الحروب العلنية لإخفاء المعلومات المتعلقة بمجريات الأرض وخسائرها وللحفاظ على سرّية العمليات العسكرية. ويظهر استخدام هذا المصطلح كجزء من محاولات إدارة هذه الحروب والأزمات المرتبطة بها، وبالتالي، إدارة الجماهير في سبيل التحكّم بردود أفعالها ومواقفها إزاء الحرب الناشبة. ويتقاطع التعتيم مع التضليل الإعلامي في اللحظة التي لا يكتفي فيها العدو بالإخفاء، بل يتحول إلى مرحلة التصريح بعكس ما حدث في أرض المعركة لضمان فعالية الخداع.
مع بداية العدوان الإسرائيلي المستمر على لبنان، هناك شبه إجماع على أن العدو لم يمارس إستراتيجية التعتيم الإعلامي بهذه الصرامة في أي حرب سابقة، وهذا يعود إلى مجموعة معطيات منها نيّة العدو الاستمرار بالحرب مهما طالت، على اعتبار أنها حرب وجودية بالنسبة إليهم، وهذا يتطلب إخفاء معلومات معينة قد تكون مؤذية لصورته بهدف التخفيف من ردود الأفعال الداخلية على مجريات هذه الحرب ضمانًا لعدم تكوين رأي عام ضاغط يعارض الاستمرار بها، بالإضافة إلى فرضية وجود علاقة طردية بين رفع حالة التعتيم وبين سلبية المجريات على أرض الواقع، أي كلما ارتفعت وتيرة التعتيم إعلاميًا وحدّته، فإن هذا يدل على مدى فداحة الخسائر التي مُني بها العدو أمام المقاومة. ويلجأ العدو إلى إستراتيجية التعتيم حينًا والتضليل حينًا آخر أثناء عدوانه على لبنان تحقيقًا لمآرب تتصل بالحرب النفسية التي تستهدف جمهوره من جهة وجمهور المقاومة من جهة أخرى، واضعًا نصب عين إستراتيجياته مقولة جوزف غوبلز: «اكذب، اكذب، حتى يصدقك الناس»، وربما حتى تصدق نفسك مع الوقت! إذ يسعى العدو عبر التعتيم الإعلامي إلى استعادة صورة «الجيش الذي لا يُقهر» وتثبيتها في الأذهان عبر التركيز على الخسائر التي يسبّبها للمقاومة باستهداف قادتها ومهاجمة بيئتها وتدمير منظومتها العسكرية، في مقابل إخفاء خسائره البشرية والعسكرية وإنكار إنجازات المقاومة عبر التأكيد في بياناته الرسمية على التصدي لمعظم الصواريخ أو المسيرات التي تُطلق، أو إظهار مشهد دمار محدود في المستوطنات التي تطالها هذه الصواريخ من دون إيقاع أي قتلى في صفوف الجنود أو المستوطنين أو بقليل من الجرحى في أحسن الأحوال.
لكن في استعادة لعملية قصف بنيامينا في حيفا، فقد كانت من المرات النادرة التي يرى فيها المشاهد دم الجنود الإسرائيليين على الأرض لقوّة مباغتة الهجوم وعدم القدرة على تنفيذ الرقابة على المحتوى الذي انتشر. ورغم الاعتراف في البداية بدقة الضربة وخطورتها وحساسيتها، وفي ظل الإفصاح عن أنّ عدد الجرحى تخطى الستين جنديًا، وفي مشاهدات لعدد من الطائرات المروحية التي استُقدمت لنقل هؤلاء الجرحى، إلا أنّ العدو عتّم على الحصيلة النهائية بدايةً، ليعترف بعدها بقتل أربعة جنود فقط من بينهم.
لاءات ثلاث في التغطيات الإعلامية: «لا للنشر»، «لا للشفافية» و«لا للمصداقية»
كما يهدف العدو في تعتيمه الإعلامي إلى تهدئة الجبهة الداخلية والحد من هلعها حتى في ظلّ صفارات الإنذار التي لا تكاد تهدأ في بعض الأحيان. إذ إنّ أي خبر يؤكد خرقًا للكيان وتهديدًا لأمنه، فإن من شأنه خلق حالات من الخوف والقلق المتزايدين، ما قد يؤسّس لجبهة معارضة لاستمرار الحرب، ويشكّل ضغطًا غير محبّذ على الحكومة الإسرائيلية. لذا يحاول العدو إثبات أنّ الأمور تحت السيطرة بالنسبة إليه مهما بلغت الهجمات من دقة وتنوع.
بشكل متزامن، يقع في خانة أهداف التعتيم الإعلامي التأثير على بيئة المقاومة، فإن أي اعتراف بهدف تحقّقه المقاومة يزيد من رصيدها أمام شعبها. لذا فإن عدم التصريح به يقع في خانة خفض معنويات المؤيدين للمقاومة، بل جعلهم يعتقدون بفشلها في الميدان إن اضطر الأمر، بالإضافة إلى أنّ إخفاء المعلومات يصبّ في عدم السماح للمقاومة بالوصول إلى أي معلومات حول الأهداف المتحققة من عدمها، فقد سمحت الرقابة الإسرائيلية أول من أمس فقط بنشر معلومة حول عملية قيساريا مفادها «أن الطائرة من دون طيار التي أرسلها «حزب الله» كانت مباشرة لغرفة نوم نتنياهو وسارة».
ممّا لا شك فيه أنّ عدوًا وحشيًا كإسرائيل، يعمد جراء التعتيم إلى إخفاء جرائمه المرتكبة بحق المدنيين ثم التضليل عبر تبرير كل استهداف بوجود هدف عسكري أو بشري تابع للمقاومة فيه.
لكن الأمر لا يقتصر على إخفاء الحقائق وإنكار الخسائر على الأرض في وسائل إعلام العدو التقليدية ومواقع التواصل الاجتماعي، بل يتخطى ذلك إلى إغلاق مكاتب وسائل إعلامية وصولًا إلى إسكات الأصوات الصحافية التي تنقل الوقائع. وبالتالي يمثل قتل الصحافيين -أو محاولة ذلك على الأقل- أقسى مراحل التعتيم الإعلامي. وبالفعل، قتل العدو ثلاثة صحافيين لبنانيين وما يفوق الـ 175 صحافيًا فلسطينيًا في غزة منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) العام الماضي.