للمرة الثانية على التوالي، لم يظهر محمد علي الحسيني في برنامج «ساعة حوار» على شاشة «العربية». الخبر الذي يُشاع على وسائل التواصل الاجتماعي يفيد بأن إدارة الشبكة السعودية قررت طرد العميل صاحب العمامة من دون شرح الأسباب الكامنة وراء هذا الطرد. هناك همس يوحي بأن طرد الحسيني جاء بعدما عمّمت السلطات السعودية قرارًا نصّ على منعه من الظهور الإعلامي. أما الأسباب فهي غير واضحة كذلك. الحسيني الذي يسهب بحديثه بنبرة الواثق العالم، والذي يسرف بوصف السيناريو الحتميّ القادم، صار يكتفي بالرد بـ«لا» عندما يسأله عشّاقه على منصة إكس ما إذا كان سيظهر في الحلقة التلفزيونية في الموعد المعهود.
لا شيء مؤكدًا بشكل رسمي حتّى الآن حول طرد محمد علي الحسيني من قناة «العربية». المؤكد الوحيد، أنّ غيابه عن الشاشة هو كانقطاع موجة البث عن الأثير بعد تعرّضها لخلل. في حالة الحسيني، هي توقعاتٌ بمثابة تنبؤات حمقاء كانت غير موفقة، أفرط في الإدلاء بها وأفضت إلى توقّف هذيانه الذي كان منذ الأصل تشويشًا. أما في حالة تغييبه، فنحن أمام عبرة يعيد التاريخ تكرارها: المشغِّل يستغني عن شغيله عندما ينتهي الأخير من تأدية الخدمة، أو عندما يخفق في إنجازها.
لا شيء يثير الضحك وسط هذه الحرب الضارية سوى الإطلالات الإعلامية للمدعو محمد علي الحسيني على قناة «العربية». إنه الشخص الوحيد القادر على إفساح المجال للملهاة بأن تحضر قليلًا، ولو لساعةٍ واحدة، كفاصل ترفيهي من المأساة الدامية التي نعيش فصولها. الظاهر أنّ محمد علي الحسيني الذي حكم عليه القضاء اللبناني بتهمة العمالة عام 2011 بعد افتضاح أمر تخابره مع كيان العدو الإسرائيلي، نال عليها ترقيةً من قبل المملكة السعودية، ففتحت له هواء الشاشة، وصار يسرّب ما تريد إسرائيل تمريره للجمهور العربي، عوضًا عن الاكتفاء بتزويد المعلومات كما يقتضي عليه فعل الوشاية.
يطلّ محمد علي الحسيني في برنامج «ساعة حوار» على قناة «العربية» التي تصرّ على التعريف به بوصفه أمين عام «المجلس الإسلامي العربي» في لبنان، كخبير حروب ومحلل إستراتيجي، بل كمختصّ في الأمن ومفكك للشيفرات، تمامًا مثل توم كروز في فيلم «مهمة مستحيلة». بيد أنّه ليس بخبير حربي ولا حتى محلِّلٍ «دويريّ». هو بكل بساطة، نسخة رديئة عن أفيخاي أدرعي بهيئةٍ عربية، وبسبب هيئته العربية هذه المطروحة بتصرف إسرائيل وبخدمتها، فهو رديء شديد الرداءة.
ليست المرة الأولى التي تستقطب فيها السعودية ما هو رديء وتُعيد تدويره قبل تصديره من مصانعها. عندما كانت الجبهة السياسية ساخنة في السابق، أطلّت علينا في لبنان شخصية كوميدية، هجينة، على طراز محمد علي الحسيني. شخصية بدت كأنها خارجة للتو من محل ألعاب بلاستيك سعوديّ. فجأةً، بين ليلةٍ وضحاها، خرج علينا كداعية وواعظ، يهوى ركوب الدراجات الهوائية وتعاطي الكبتاغون، يعشق إطلاق الرصاص من الكلاشينكوف، ومنظِّرٍ بارعٍ لأيديولوجيا الضحية، اسمه أحمد الأسير الحسيني. لا قرابة عائلية تربطه بمحمد علي الحسيني، ولو أنهما يحملان نفس اسم العائلة، لكن صلة وثيقة تجمعهما سويًا، إذ وراء الكوميديا الظاهرة يتلطّى جوهرٌ ظلاميٌّ واحد.
محمد علي الحسيني يستحقّ لقب مهرّج العام. الرجل، كما يتضح، لبّى نصيحة ماكيافيلّي الذي أسداها للأمير عندما أوصاه بتفضيل خوف العامة منه على محبّة العامة له. لا يريد محمد علي الحسيني أنّ يكون محبوبًا، بل يريد أنّ يبدو مهيبًا. وهذا ما يزيد من فرط الضحك. حين يتكلّم، فهو يشدّ على نفسه كثيرًا لدرجة تُشوّهُ مخارج الحروف عندما يتلفّظ، وحين يصمت فالحسيني كثير الكزّ على أسنانه. الرجل يريد البروز كشخصية قاسية، مخيفة، متماهيًا حدّ الإمّحاء مع إسرائيل، فليصدّقْه أحدٌ رجاء.
على ما يبدو، إنّ منتج «أراب غوت تالنت» هو نفسه منتج برنامج «حوار الساعة»، وربما هو عرّاب الحسيني ومدير أعماله أيضًا. فالشيخ هذا موهوب، متعدّد المواهب. إنّه كاتبٌ لديه ما يفوق الأربعين كتابًا يروي معظمُها قصة «الإسلام المعتدل». إنّه فقيهٌ شيعيٌّ معادٍ لـ «حزب الله»، هو جاسوس لإسرائيل، مطيع، يطأطئ رأسه عند مصافحته الملك، ومن يمتاز بهذه السمات لا ينال ترقية مهنية فقط، ولا الجنسية السعودية كذلك، بل يُفتح له الهواء بقدر ما يريد للإدلاء بما يريد. يبقى أنّ أكثر ما يميز الحسيني حقيقة أنه نكتة خرجت عن طورها وأخذت نفسها على محمل الجد. يريد الظهور كزرادشت متكلمًا، واعظًا أبناء المدينة، والحال أنه مهرجٌ فالِت في مدينة «نيوم»، يحاضر في شؤون بني صهيون ويتطلّع إلى إسرائيل بوصفها الجمهورية الفاضلة.
يطلّ محمد علي الحسيني إذًا في برنامج «ساعة حوار» على قناة «العربية» ليزوّد المشاهدين بما تريد إسرائيل، والسعودية بطبيعة الحال، تقدّمه لهم. بجعبته القليل من المعلومات الاستخباراتية زوّدَه بها مُشغّلُه الإسرائيلي، أمّا الباقي فمرهونٌ بقدرته على الارتجال. فمهمّة الحسيني ليستْ في التكرار، ذاك الذي يشبه القالب الطربيّ، أي إعادة التكرار واجتراره من جديد بأنّ إسرائيل كيانٌ عاصف، وقويٌّ جدًا، إنّما مهمّتُه منوطةٌ بالترويج لسيناريوهاتٍ إسرائيليّةٍ بعضُها خياليٌّ مركّب، وبعضها الآخر قد تكون خططًا وُضِعَتْ على سبيل التسلية وطُرحَتْ أمامه في جلسات التجسّس والوشاية، فيما أفكارٌ متطايرةٌ من هذه السيناريوهات، كأسماء قادة على لائحة الاغتيال، فإنّه مُكلّفٌ بتسريبها. في حالة اغتيال السيد نصرالله، لم يظهر الحسيني كأنّه عرّافٌ يتصيّد الغيب ويكشف عن المخبوء، إنّما بيّن، بوصفه ساعي بريد أي مسربًا، على قدرة إسرائيل الفائقة، بالأحرى على إسرائيل الساحقة، بحيث من يفكّر في مواجهتها، لهو خاسرٌ سلفًا.
القسطُ الكبير من مهمات الحسيني يرتكز على إثارة الدهشة حيال قدرات إسرائيل الخارقة، لإسباغ حالة الهزيمة على المُشاهد وتركه عاجزًا أمام هذه القوّة الجبروتية. وظيفتُه تحديدًا تقوم على افتعال الصدمة؛ ذلك أنّ الصدمةَ تفرز الشللَ، تُشتِّتُ الخصم، تربكه، ما يجعل الحربَ تتجاوز نصف الطريق. على هذا النحو، لا يكُفُّ الحسيني عن الكشف عن قدرة إسرائيل المعرفية، حيث المعرفةُ هذه سوبرمانيّةٌ، في كونها تتعدّى الزمان والمكان: «نحن نسمع ونرى»، يقول. على أنّ نون الجمع هنا لا تدلّ على انتمائه لإسرائيل فقط، إنّما هي صيغةٌ استخدمها الرجل ليُضفي مقدارًا معيّنًا من الهيبة والرهبة على نفسه. لكن الحسيني لا ينجح سوى في إبهار السُذّج، وبطبيعة الحال، مُقدّمة البرنامج التي تؤدي دور الكومبارس. لو تتبّعنا ملامحَ مضيفة الحسيني، ريم بو قمرة، ورصدْنا تعابيرَ الذهولِ الباديةَ على وجهها، لاستنتجْنا أنّها صاحبةُ موهبةٍ أضلّتْ طريقَها. توحي بأنّها ممثّلةُ مسرحٍ من المعيار الرفيع، متعمّقة بتقنية «المنهج» الخاصة بستانسلافسكي، لكن لسببٍ مؤسف، انتهى بها المطاف في عالم الإعلام.
يحرص محمد علي الحسيني على هيبته، بل يهتمُّ بصقلها وبتعزيزها. عدا أسلوب التهديد والوعيد، يستمدّ الحسيني من لاعبي المصارعة الحرّة، الرياضة المفضّلة في السعودية، الحركةَ القاتلةَ التي تسبقُ الضربةَ القاضيةَ، هكذا ينهي حديثَه، بالقول الفصل الذي صار جملةً كاريكاتوريةً يتناقلها اللسانُ العربي: «اجمعْ شملَك، واعهدْ عهدَك، واكتبْ وصيّتَك» ممهِّدًا عبرها، لاغتيالٍ إسرائيليٍّ قيد التحضير؛ وهي جملةٌ باتت مزحةً شهيرةً يردّدها المُنزعجُ بوجه من أزعجَه على سبيل الفكاهة والضحك لا التهديد، بطبيعة الحال.
في علم النفس، تصبو حلقة الحسيني إلى ما يُطلق عليه تسمية «التداعي الحر». فلا رقابةٌ عقليّةٌ على المنطوق ولا من يحزنون. الكلام يروم إلى مونولوغ كابوسيٍّ طويل، فضاءاتٌ سوداء قاتمة، بشارة عن لحظة أبوكاليبسيّة، في أنّ الأبوكاليبس مرهونٌ بمزاج إسرائيل واللحظة المناسبة على تحقيقه. لسنا بحاجة إلى كتب تفسير الأحلام لفرويد أو ابن سيرين. مع الحسيني، نحن إزاء أحلامٍ مفسَّرةٍ خالصة: هناك من يريد تقديمَنا قربانًا على مذبح الاستسلام لإسرائيل.
محمد علي الحسيني ظاهرةٌ في عالم الجنون السياسي. أفلام الرعب الكلاسيكية اقْتُرِنَتْ بشخصية المهرّج الذي يسكن بداخله مجرم. بعيدًا من الضحك، من يضبطْ نفسه ويتابعْ بشكل جدّي حلقاتِ الحسيني، يخلُصْ إلى أنّ أمرًا جنونيًا، غير معقولٍ، يحدث مباشرةً أمامه: ثمة جرائم يتمّ التخطيط والترويج لها، فيما المهرج يتفاخر باشتراكه في هذه الجرائم.
غير أنّ محمد علي الحسيني في إطلالاته الأخيرة قد أفرط في الارتجال، وانزلق كثيرًا في رغباته، حتى تحوّلَ مصيرُه إلى ما أراده مصيرًا لغيره. غدا الحسيني ضحيّةَ نفسه؛ فلا المنشآتُ النوويةُ قُصِفَتْ، ولا الخامنئي اغتيل، والشيخ نعيم قاسم على قيد الحياة، وكلُّ هذا على عكس ما أفصح به، ولربّما توقّعاتُه الخاطئة هذه، التي نتعامل معها كدعاباتٍ هائمةٍ، أفقدتْه وظيفته. قد نكون خسرنا ضحكةً، لكنّنا في كل الأحوال، حقّقْنا انتصارًا صغيرًا، في أنّ المكبوتَ سيعود مكبوتًا، وهو درسٌ على أبواق إسرائيل وخدّامها تعلُّمُه، فالصمتُ التامّ، ولو كان بمثابة العضّ على الجرح، أفضل من الهذر الطويل الذي يجعل من صاحبه أضحوكةً، ومزحةً هائمةً تتناقلها الألسن.