على مدار السنوات القليلة الماضية، بدأت السلطات المصرية بهدم مجموعة من الأضرحة والمقامات والقبب والجبانات الأثرية والتاريخية ذات الطابع المعماري الإسلامي التي تمثّل أبرز وأعم معالم القاهرة الحضارية. بدأت الإزالات في أكتوبر/تشرين الأول 2021، بادّعاء تطوير محور صلاح سالم، وصاحَبتها اعتراضات مجتمعية وأخرى قادها معماريون وآثاريون ومهتمون بالتاريخ وعلوم الحضارة والفكر، بل ورفع حينها عدد من الشخصيات العامة المصرية دعوى قضائية مستعجلة أمام محكمة القضاء الإداري في مجلس الدولة، ضد رئيس مجلس الوزراء ووزيري الآثار والإسكان، ورئيس مجلس إدارة المجلس الأعلى للآثار، ومحافظ القاهرة، ورئيس هيئة التنمية الحضرية ورئيس الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، للمطالبة بوقف تنفيذ القرار السلبي بالامتناع عن توفير الحماية اللازمة للمقابر والمباني الأثرية وذات التراث المعماري.
استمرت السلطات في الهدم والتشويه بدعوى تطوير شبكة الطرق والكباري (الجسور) والحاجة إلى محاور مرورية جديدة، حتى انتهى الحال إلى هدم مقبرة الإمام الشافعي قبل أيام، بالرغم من الاعتراض والغضب الشعبي من مجرد انتشار صورة مهدمة لمقبرة الإمام. وقد التهمت البلدوزرات نصف قبة المقبرة.
جبانات القاهرة العريقة تضم مقابر شخصيات شهيرة، مثل الإمام الشافعي. كما تضم مقبرة الإمام ورش، ومقام الإمام وكيع بن الجراح مقرئ الإمام الشافعي، والشيخ محمد رفعت أحد أعلام قراءة القرآن في العالم الإسلامي، بخلاف عدد من الساسة والفنانين، أبرزهم رئيس وزراء مصر في عهد الملك فؤاد الأول، عبد الخالق باشا ثروت، والفنانين أم كلثوم وعبد الحليم حافظ، وأسمهان وفريد الأطرش وهند رستم ويوسف وهبي وصلاح ذو الفقار. كما أنها تحتوي مدافن أمير الشعراء أحمد شوقي وحوش الملكة فريدة ومدفن محمود سامي البارودي وسبيل ومقام الإمام جلال الدين السيوطي، وقبة وجامع محمود باشا الفلكي ومسجد فاطمة الزهراء، وغيرها من مقابر الشخصيات التاريخية والرموز المصرية والمساجد والقباب والأسبلة.
مع مشاعر الحزن من صورة مقبرة الإمام الشافعي المهدمة، خرجت أخيرًا مبادرة يقودها معماريون وأكاديميون في تخصصات التاريخ والحضارة والآثار، ومثقفون وشخصيات عامة، في صحوة شعبية قد تكون جاءت متأخرة بعد هدم مقبرة الإمام الشافعي، لكنها على الأقل تحاول إنقاذ ما بقي من جبانات أثرية وتاريخية.
قال الموقعون على البيان: "تتعرض جبانات مصر التاريخية منذ أربع سنوات لموجات من التدمير الممنهج يحدث على دفعات، تتوقف مؤقتًا مع تصاعد الرفض المجتمعي الذي تروعه مشاهد الجرافات وهي تزيل حجارة الألف عام، وتدك عظام الموتى بشراسة وعنف لا مثيل لهما، من دون أي اعتبار للتاريخ والأعراف الإنسانية والديانات السماوية. وصار مشهد الجرافات التي تنقض على موقع تراثي له صفة القداسة عند المصريين بجميع فئاتهم وانتماءاتهم".
جاء في البيان: "إن المشاهد الصادمة التي وثقناها لقباب فريدة تتحطم في لمح البصر، وشواهد تحمل آيات قرآنية ومقولات جميلة وأشعارًا مفتتة وملقاة على الأرض، وأنقاض من الحجارة وجذوع الأشجار على مرمى البصر، كانت بالأمس مدافن أنيقة تمثل المثوى الأخير لموتانا، ستظل تطبع ذاكرة الأجيال القادمة لتذكرهم بعصر من دمروا تراثا حافظ عليه السكان الأصليون والغزاة على حد السواء على مدى قرون".
أشار المعنيون بالحملة إلى أنه خلال السنوات الماضية "طاولت عمليات الهدم عشرات المدافن ذات القيمة المعمارية والمعنوية، والتي تمثل جزءًا من نسيج متجانس ظل محتفظًا بهويته المتفردة خلال القرنين الماضيين. وفي مواجهة ردود الفعل الغاضبة الآن لرفض ضياع تراث مصري أصيل، ودرء مخاطر القضاء على حقبات من تطور العمارة الجنائزية في مصر، ومحو ذاكرة المكان والأعلام الذين دفنوا في ثرى جباناتها التاريخية، يتم تنفيذ تراجع تكتيكي كما في المرات السابقة، والإعلان عن توقف الهدم مؤقتًا، من دون تبرير لهذا الدمار الشامل الذي خص أهم المدافن".