*باحثة في الأنثروبولوجيا والإعلام، أستاذة جامعية
تقول الصحافية والكاتبة الأميركية أنالي نيويتز في كتابها بعنوان "القصص هي أسلحة" إنّ: "القصص والسرد يمكن أن تكون أسلحة أيضًا، تُستخدم في المعركة على ساحة معركة، مستعرضةً، مجموعة الأدوات الأساسية للحرب النفسية، من المعلومات المضلّلة والدعاية والتهديدات العنيفة ضد الخصوم إلى أدوات في الحروب". في عالم مزقته أعمال العنف، أصبح ما يقرأه الناس ويسمعونه ويرونه على منصات وسائل التواصل الاجتماعي إلى ما يتابعونه عبر منافذ الأخبار الرئيسة، يؤثّر بشكل عميق على وجهات نظرهم، وفي النهاية، على أفعالهم.
تقول الدكتورة ريزارتا بلالي الأستاذة المساعدة في علم النفس والتدخّل الاجتماعي، في جامعة نيويورك شتاينهاردت: "من السهل أن نشعر باليأس بشأن حال المجتمع والعالم مع استمرار الحرب حتى في خضم الجهود الجارية لإيقافها". وعلينا أن ندرك أن ضغوط الحرب قد تزيد من الضغوط اليومية، حتى إنّ كثيرين بيننا قد يعانون أيضًا الخوف والإحباط وصولًا إلى العجز.
فلنناقش كيف تؤثّر الحرب علينا وعلى عائلاتنا؟
مراقبة التعرّض الإعلامي
بخلاف التغطية الإعلامية للحروب السابقة، لدينا الآن وصول مستمر وفوري إلى صور ومقاطع فيديو للعنف والتدمير والقتل الممنهج من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والأخبار على مدار الساعة. فقد شهدت بداية القرن الحادي والعشرين العديد من التغييرات في طريقة إدارة الحرب. وإلى جانب الحرب في البحر وفي الجو وعلى الأرض، هناك الآن الحرب النفسية، والتي أثبتت أنها ذات بُعد قوي للغاية.
منذ بداية تطوّر المعرفة حول عالم الحرب، كان البعد المتعلّق بالحرب النفسية، أو استخدام اسمه السابق "الدعاية"، يُنظَر إليه كونه عنصرًا حيويًا في المعركة. ونتيجة لهذا، كان على القادة العسكريين وجيوشهم أن يشحذوا قدراتهم على العمليات النفسية. في هذا الإطار، طرح العالم السياسي والاجتماعي الفرنسي والفيلسوف الذي اشتهر بتحليله النقدي جاك إيلول تعريفًا عن الدعاية بوصفها "تلاعبًا بغرض تغيير الفكرة أو الآراء، وجعل الأفراد "يؤمنون" بفكرة أو حقيقة ما، وأخيرًا جعلهم يلتزمون بعقيدة ما - وكل هذه أمور تتعلّق بالعقل". إلاّ انّه ومع تطوّر الوسائل التكنولوجية، لم تعد الدعاية الحديثة تهدف إلى تعديل الأفكار، بل إلى إثارة الخلافات. ولم تعد مصمّمة لتغيير الالتزام بعقيدة، بل لجعل الفرد يتمسك بشكل غير عقلاني بعمليات العمل مقصودة، ولم تعد طريقة لتحويل رأي المرء؛ بل طوّرت لتوليد اعتقاد نشط وأسطوري، وأصاب هذا التحوّل اسمها من الدعاية إلى العمليات النفسية التي تعمل على طمس الحدود بين الحقيقة والزيف عمدًا. تاليًا، أضحت المعارك تُدار وتدور حاليًا بين وجهتي نظر، في ظل انقسامات ليست جغرافية، ولكنّها مبرمجة في رؤوس الناس بهدف زرع الفتنة والارتباك.
حروب تكتيكية أم نفسية؟
في التسعينيات من القرن الماضي، تخلوا عن مصطلح الحرب النفسية لصالح "الوعي"، والمصطلح الشائع اليوم هو "حملات التأثير" والتي تعني الحرب على العقل. إذًا، هي معركة الوعي والتأثير على العقل في زمن الشعارات التي تخاطب الإنسانية، وحقوقها، والحق في البقاء، والدفاع المشروع عن النفس والأرض، تعمل الحرب النفسية على لفت انتباه الرأي العام إلى مواضيع مثيرة للجدال، مثل الدعاية، وغسيل المخ، والدجل وما شاكلها. ما حصل إنّه ومع نمو وسائل الإعلام الاجتماعية وانتشار الاتصالات العالمية، بدأت العديد من الجيوش في زيادة استخدامها للحرب النفسية كسلاح مؤثّر، إذ يُمكن لدولة معتدية لم تتمكّن من احتلال مدن وبلدات دولة أخرى، لكنها تستطيع شن نوع من الحرب النفسية لجعلها غير صالحة للعيش. فتلجأ إلى التهديد وإجبار الجميع على المغادرة، وتقصف وتدمّر كل شيء .. فيروّجون أنّهم انتصروا، وتخوض عندها "حرب الدعاية الجديدة" التي يستخدم العدو فيها كل الوسائل والأدوات الممكنة آملًا في الفوز من خلال لعبة نفسية قد لا يتمكّن من بلوغها خلال هجماته العسكرية.
تحقيق الضرر النفسي
في هذه اللحظات الحرجة في الحرب، نجد ونلمس تحالفات متغيّرة حول الدعاية والرسائل المتغيرة، وهو أمر مثير للاهتمام حقًا. فكيف يبعث العدو برسائله في هذه اللحظات؟ وماذا يقول؟
قد نتفاجأ إنّ رسائل العدو ــ أي ما يقوله العدو نفسه ــ لا أهمية كبيرة لها، لأنّ الرسائل والدعاية تأتي من خلال العديد من القنوات المختلفة، هي تأتي من خلال وكلاء، وتأتي من خلال بعض السياسيين. إذ سيكون هناك صحف، أو مواقع ويب في دول عدّة، والتي تبدو للوهلة الأولى وكأن لا علاقة لها بالعدو، لكنها في الواقع لها روابط معها، فتتضافر جميعها لرسم هذه الخطوط. وتأتي الرسائل بطرائق مختلفة ومضخّمة، فنغدو أمام نوع من مجموعة السرديات الاستبدادية، والتي تدور في موضوع معيّن إلى حد ما، وتتكرّر نفسها مع العديد من الجهات الفاعلة المختلفة وفي بلدان عدّة، فتنتشر هذه السردية بالكامل على الشبكات المتعدّدة، ويُصبح بإمكاننا العثور عليها في كل مكان.
لكن كيف يتكوّن، ولماذا يتكوّن الشعور بالهزيمة؟
يشرع العدو في تسميم هذه الفكرة، من خلال تسميم فكرة وجود شيء أفضل، وتسميم فكرة الأفكار نفسها، وتسميم اللغة، باستخدامه مصطلحات مشوّهة وزائفة وفارغة من معناها، مثل: الديمقراطية والحرية والشفافية، وسيادة القانون ومكافحة الفساد. ولا بدّ من إثبات زيف كل هذه الأشياء التي ترسّخت في الأذهان والعقول، وتركت أيضًا صدًى معيّن وجاذبية للجمهور.
هل نتعرض للتلاعب والخداع من الآخرين؟ أم أن هناك عناصر في مجتمعاتنا تسعى إلى التلاعب بنا وخداعنا؟
علينا الإدراك بأنّ ما يحدث عادةً هو أن الدعاية المستخدمة لا تخترع أشياء جديدة، ما يفعلونه هو أنهم يأخذون خط صدع موجود أو انقسام موجود، ثم يساعدون في تفاقمه. لذلك، سواء أكان ذلك من خلال حملات وسائل التواصل الاجتماعي، أو من خلال أي وسيلة أو آلية ممكنة، فيسعون بكل الطرائق إلى تسخير ما من شأنه إضعاف الروح المعنوية وخلق الانقسام وتضخيم الأمر وجعله متواترًا كي يرسخ في أذهان المستهدفين.
استراتيجيات مواجهة الحرب النفسية
تؤثّر الحرب النفسية بشدّة على الصحة النفسية، إذ انّ التعرّض المستمر للمحتوى السلبي أو المسبّب للخوف يمكن أن يؤدّي إلى الشعور بالعجز والقلق واليأس، ما قد يقلّل بمرور الوقت من قدرة السكان على مقاومة التهديد الفعلي، وقد يدفعهم إلى الاستجابة بشكل فعّال لهذه التكتيكات. لذلك تتطلّب مواجهتها نهجًا استباقيًا ومتعدّد المسارات، يرتكز على:
أوّلًا: بناء شبكات اتصال مرنة وموثوقة، وهو أمر أساسي وضروري لمواجهة انتشار المعلومات المضلّلة. مع إمكان وصول الأفراد من خلالها إلى تحديثات دقيقة وفي الوقت المناسب، ما يقلّل من خطر لجوء الناس إلى مصادر غير موثوقة.
ثانيًا: تعزيز محو الأمية الإعلامية والتفكير النقدي، وذلك من خلال تثقيف الناس حول محو الأمية الإعلامية، والتوجيه نحو التفكير النقدي في تحديد المصادر غير الموثوقة، واكتشاف تكتيكات التلاعب والتشكيك في صحة المعلومات.
ثالثًا: تعزيز الروابط الاجتماعية وتعزيز الوحدة، من خلال الاحتضان، والتآزر، والمساندة عبر المشاريع المجتمعية التعاونية، والمنتديات المفتوحة للمناقشة، وكل ما يُسهم في تعزيز التضامن، ويُشعر الناس بالانتماء والارتباط.
رابعًا: خلق سرديات مضادة إيجابية، يمكن أن تشمل هذه السرديات قصص المرونة والنجاح المجتمعي أو الفخر الثقافي، ويُمكن للمجتمعات مشاركة القصص والرسائل الملهمة التي تعزّز الأمل والتضامن والقوّة.
خامسًا: تقديم الدعم للصحة النفسية والتدريب على المرونة النفسية، مثل الاستشارة المختصّة، ومجموعات دعم الأقران، والتدريب على برامج إدارة الإجهاد، للمساعدة على التعامل مع الخوف وعدم اليقين.
سادسًا: توقّع ومراقبة تكتيكات الحرب النفسية، فمن الأهمية بمكان مراقبة وسائل الإعلام لتحديد الأنماط الناشئة وتعديل الاستراتيجيات المضادة وفقًا لمجريات الأمور.
بالرغم من كل شيء، ليس صعبًا أن نكتشف الحقائق إذا ما سألنا عما يُرى أو يُتابع؟ وكيف يشعر الأشخاص حيال ذلك؟ وهل يرغبون في الحصول على مزيد من المعلومات عن حدث ما؟ ولا بأس إن فكّرنا في مشاهدة أو قراءة تغطية الحرب معهم، وأن نناقش معًا كيفية التمييز بين المصادر الموثوقة للأخبار والمعلومات المضلّلة، والصور المتلاعب بها، والقصص المختلقة، والسرديات المبالغ فيها، وما يدفع إلى الاعتقاد بأن التهديد أكثر إلحاحًا وأكثر خطورة ممّا هو عليه فعلًا.
المراجع:
- Toner, Jacqueline. B. (2021). What to Do When the News Scares You: A Kid's Guide to Understanding Current Events (What-to-Do Guides for Kids Series).
- Hastings, Max (2018). Vietnam: An Epic Tragedy, 1945-1975 New York: Harper Collins.
- Farwell, James P. (2012). Persuasion and Power: The Art of Strategic Communication, Georgetown University Press.
- Linebarger, Paul M.A. Paperback (2010). Psychological Warfare, Published By: The University of Chicago.
- Chomsky, Noam. (2002). Media Control: The Spectacular Achievements of Propaganda, Seven Stories Press.
- Leshan, Lawrence. L. (2002). The Psychology of War: Comprehending Its Mystique and Its Madness, Publisher, Noble.
- McLendon, J. W. (1994). Information Warfare: Impact and Concerns. AIR WAR COLL MAXWELL AFB AL.
- Ellul, Jacques (1973). Propaganda: The Formation of Men’s Attitudes, p. 25. Trans. Konrad Kellen & Jean Lerner. Vintage Books, New York.
- Ellul, Jacques. (1962). “Propaganda: The Formation of Men’s Attitudes”.
- L. Bogart, (Premises for Propaganda: the US Information Agency’s Operating Assumptions in the Cold War (New York, Macmillan, 1976), is an investigative report written in 1953 but had been classified owing to its sharp criticism of failed management over more than twenty years.