لا يتورّع الغرب الجماعي المنافق عن إيجاد تسويغات لسياساته الاستعمارية ضدّ الجنوب العالمي، باستخدام حجج واهية ظاهرها يتعلّق بحقوق الإنسان، فيما باطنها أبعد ما يكون عن هذه الحقوق التي تتشدّق بها حكوماته وأتباعه. فقد أظهرت حرب أوكرانيا أنّ الخطوط الحمر بالنسبة إلى حقوق الإنسان، لا تنطبق سوى على البيض الغربيّين، قبل أن تُثبت أحداث العام المنصرم في غزّة ولبنان أنّ هذه الخطوط تزول تمامًا عندما يكون الغرب هو مَن يتخطّاها، ويشاركه في ذلك أتباعه مثل الكيان الصهيوني وبعض الأنظمة اليمينية حول العالم. هكذا، لا فارق بين نظام فاشي أو آخر علماني أو آخر إسلامي أو آخر شيوعي. إذا كان هذا النظام مطيعًا للولايات المتّحدة، عندها يُفرض تعتيم على انتهاكاته لحقوق الإنسان. وإذا كان متحدّيًا لها، فإنّه يواجه حروبها الناعمة والخشنة.
استنادًا إلى ما سبق، كانت حقوق النساء الشمّاعة التي علّق عليها الغرب معاداته لإيران ما بعد الثورة الإسلامية. بالطبع، فإنّ الغرب لا يكترث للنساء ولا لحقوقهنّ، هو الذي يضع نساء في أعلى مناصب النظام الرأسمالي الأبوي كي يقصفن نساء أخريات وراء البحار ويخنقهنّ بالحصار والعقوبات وزعزعة استقرار بلادهنّ، ولا يهمّه كون نظام دولة ما إسلاميًّا أو لا، هو الذي يتغاضى عن تجاوزات بحقّ النساء في بلدان إسلامية حليفة له. معاداة إيران تأتي من وقوفها في وجه الإمبراطورية والإمبريالية وعنجهية القطب الواحد الذي حكم العالم بعد انهيار الاتّحاد السوڤياتي، فيما اليوم هناك قطب جديد في طور التشكّل. تُرجم ذلك برفضها الاستيلاء على مقدّراتها والتصدّي للتدخّلات الأميركية في منطقة غرب آسيا، بما في ذلك دعم حركات المقاومة ضدّ الكيان الصهيوني المحتلّ.
بالطبع، نفاق الغرب وإستراتيجيّاته لا تنجع من دون «جسم لبّيس»، وهو النظام الإسلامي الذي يتّبع شريعة دينية في الشؤون المدنية، بالإضافة إلى وجود معارضين إيرانيّين غير مستقلّين مؤيّدين للغرب والولايات المتّحدة وحتّى الكيان الصهيوني في بعض الأحيان. ورغم التقصير في مجال الشؤون المدنية الذي غالبًا ما يظهر على شكل رفض ما يسمّى «اللباس الشرعي» للنساء، وقد تسبّب في تظاهرات 2022 على إثر مقتل الشابّة مهسا أميني وهو ما فتح المجال للتدخّلات الغربية، إلّا أنّ هناك حقائق أيضًا يتمّ تجاهلها وتُظهر أنّ أوضاع النساء جيّدة من جوانب أخرى. يستعرض تقرير لـ«هيومان رايتس ووتش» نُشر إبّان الاحتجاجات تحت عنوان «كشف النقاب عن المقاومة: الكفاح من أجل حقوق المرأة في إيران»، جوانب الخروقات بخصوص الحقوق المدنية ودور «الشرطة الأخلاقية»، لكن من ناحية أخرى يشير إلى أنّ «70 في المئة من الإيرانيّات لا يلتزمن بتفسير الحكومة لضوابط الحجاب بموجب الشريعة الإسلامية». ووفقًا للمادّة 20 من دستور الجمهورية الإسلامية، فإنّ «جميع البشر بغضّ النظر عن جنسهم متساوون في الحقوق الإنسانية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية»، فيما تؤكّد المادّة 21 على ضرورة التزام الجميع باحترام حقوق المرأة، وتنصّ على أنّ «حماية هذه الحقوق من مسؤوليّات الإدارة والمنظّمات الحكومية في البلد». ويورد تقرير لمجلّة «فوربس» أنّ «70 في المئة من طلّاب العلوم والهندسة في إيران من النساء»، آخذًا شهادة بعض النساء ممّن يعملن في المجال وأسّسن أعمالهنّ الخاصّة. علمًا أنّ إيران والسعودية تُعتبران المتصدّرتَين عالميًّا من حيث نسبة النساء في هذا المجال.
من هنا، فإنّ ما حصل في إيران في الأيّام الماضية أكّد على أنّ الليبراليّين الغربيّين لا يهتمّون لحقوق النساء، بل يسلّعون جسد المرأة خدمةً لأجندتهم، فيما يُفترض أنّ تسليع المرأة من أهمّ ما تناضل ضدّه الحركة النسوية التي يدّعي هؤلاء تأييدها. أمّا أهدافهم فلا تتعدّى إيصال نساء إلى مواقع القوّة في نظام يُفترض أنّهم لا يستسيغونه، ويضربون بذلك عصفورَين بحجر: من ناحية يخفون حقيقة النظام الرأسمالي الإمبريالي المتوحّش خلف وجه نسائي، ومن ناحية أخرى يقضون على أيّ حركة نسوية حقيقية، وبالتالي على أيّ أمل للنساء المهمّشات في الغرب وفي الجنوب العالمي لتحصيل حقوقهنّ. أوضح مثال على نموذج النساء الذي يؤيّده هؤلاء كامالا هاريس والمندوبة الأميركية في الأمم المتّحدة ليندا توماس غرينفيلد وأيديهما ملطّخة بدماء الفلسطينيّين واللبنانيّين، وقبلهما هيلاري كلينتون وكوندوليزا رايس ومادلين أولبرايت وغيرهنّ ممّن شاركن في قمع شعبهنّ وسفك دماء الشعوب الأخرى.
بالعودة إلى إيران، فقد انتشرت مقاطع في الأيّام الماضية لطالبة إيرانية خلعت ملابسها في «جامعة آزاد الإسلامية» شمال غرب طهران، وراحت تسير بين الطلّاب الآخرين الذين بدوا مستغربين لكنهم لم يقوموا بأيّ ردّ فعل قوي؛ وبينما رأى معارضون ومنظّمات حقوقية بما فيها «منظّمة العفو الدولية» التصرّف «احتجاجًا على الزيّ الإسلامي الإلزامي في إيران»، قالت المتحدّثة باسم الحكومة الإيرانية فاطمة مهاجراني ــــــ وهي للمفارقة أوّل امرأة تتبوّأ هذا المنصب في تاريخ الجمهورية الإسلامية ــــــ إنّ الشابّة «نُقلت إلى مركز لتلقّي العلاج»، بعدما كان قد اعتقلها أمن الجامعة ونقلها إلى مركز للشرطة. وقال مسؤول في الجامعة وبعض وسائل الإعلام المحلية إنّ الشابّة تعاني مرضا عقليا، فيما انتشر مقطع مزعوم لزوجها السابق وهو مخفيّ الوجه، يبكي ويقول إنّها تعاني مشكلات نفسية وهي أمّ لطفلين. وأضافت مهاجراني لصحيفة «هام ميهان» الإصلاحية أنّه «لم يُفتح ملفّ قضائي للطالبة، فالحكومة تنظر إلى القضية من منظور اجتماعي وليس من منظور أمني. سنحاول حلّ مشكلة هذه الطالبة بصفتها فردا يواجه معضلة، وبإمكانها العودة إلى الجامعة في المستقبل إذا تقرّر أنّها تعاني أزمة نفسية». وأعادت سبب إعلان الجامعة على عجل عن مرض الطالبة العقلي إلى أنّه «على الأرجح لديهم ملفّ خاصّ بها بعد برنامج تقييم نفسي على مستوى الجامعة من مرحلة سابقة».
سرعان ما وضعت وسائل الإعلام الغربية والناشطون كلّ اهتماماتهم والتطوّرات العالمية ولا سيّما الانتخابات الرئاسية الأميركية جانبًا، وحاولت تلقّف الفرصة لاستغلال الموضوع سياسيًّا. وانتشرت رسومات للشابّة وهي بملابسها الداخلية فيما النساء حولها يرتدون اللباس الشرعي، وصوّر بعضها أولئك النساء على أنّهن متخلّفات بينما مُنحت الشابّة ملامح أوروبية.
حوّل الليبراليّون الشابّة إلى بطلة أممية و«شجاعة»، فيما هم أنفسهم يتجاهلون منذ عام ولا يزالون بطولات النساء في لبنان وفلسطين اللواتي يتعرّضن للاعتداءات الجسدية والجنسية على يد كيان الاحتلال، وينقذن حياة الأطفال والنساء والرجال وهنّ تحت القصف، ويبعدن الأطفال من القنص، ويُستشهدن وهنّ يقمن بكلّ ذلك. كما يتجاهلون وضع النساء في السودان حيث انتحرت أخيرًا مئات النساء كي لا يتعرّضن للاغتصاب على يد ميليشيات «الدعم السريع»، وفي الكونغو، وفي غيرها الكثير من البلدان المهمّشة. فوق ذلك، تفرض بعض الدول الغربية مثل فرنسا حظرًا على الحجاب، ما يمكن اعتباره بالضرورة تقييدًا لحرّية المرأة وخياراتها وحصر «تحضّرها» بمظهرها، ويبرّر الليبراليّون ذلك بوجوب «احترام هوية البلد».
كلّ ذلك لا يهمّ، لأنّ الارتكابات تقع على يد حكومات الغرب ومن يتواطأ معها. المهمّ فقط أنّ هناك فرصة لتسليع جسد المرأة، وربط تحرّرها بالتعرّي، كأنّ النساء اللواتي استعبدهن المستوطنون الأوائل للقارّة الأميركية لم يتعرّضن لنزع ملابسهنّ، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الفلسطينيّات اللواتي يتعرّضن لجرائم اغتصاب على يد جنود الاحتلال الصهيوني الذي يعدّ أداة الغرب ومصالحه. المهمّ عند ليبراليّي الغرب وحكوماته انتهاك كلّ ما هنالك من حقوق إنسانية، ثمّ انتظار أصغر فرصة لإسقاط تهمة انتهاك حقوق الإنسان على الأعداء والتظاهر بالبراءة. كما قال المناضل الكبير مالكوم إكس ذات يوم: «لم تعد معسكرات البيض السياسية في الولايات المتّحدة منقسمة بين ديموقراطيّين وجمهوريّين. ينقسم البيض الذين يتصارعون اليوم للسيطرة على العرش السياسي الأميركي إلى معسكرَين: ليبرالي ومحافظ. الليبراليّون البيض من الحزبَين يعبرون الحدود الحزبية للعمل معًا من أجل تحقيق الهدف الواحد، والمحافظون البيض من الحزبَين يقومون بالأمر عينه... يختلف الليبرالي الأبيض عن المحافظ الأبيض في شيء واحد فقط: الليبرالي أكثر خداعًا من المحافظ. الليبرالي أكثر نفاقًا من المحافظ».