اوراق مختارة

جيل الزمن الرقمي في أميركا «يكره إسرائيل»

post-img

يواجه الحزب الديموقراطي الأميركي اليوم لحظة حرجة، إذ تضيق الهوّة بينه وبين قواعده الشعبية التي طالما اعتمد عليها في تحقيق انتصاراته. على مدار عقود، تبنّى حزب قيم «العدالة» مواقف تقليدية في السياسة الخارجية، ولا سيما في دعمه الثابت لإسرائيل، وهو ما اعتبره عدد من الأميركيين - وبخاصة العرب والمسلمين منهم - تجاهلًا لمبادئ العدالة وحقوق الإنسان. لكن أنهار الدماء التي تسيل في الشرق الأوسط، وخصوصًا في غزة، أثارت تساؤلات عميقة حول مدى توافق سياسات الحزب مع تطلعات ناخبيه التقدميين.

مع توقع فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب في الانتخابات، تتزايد الانتقادات الموجهة للحزب الديموقراطي، من الداخل والخارج، وسط إدراك متصاعد بأن التمسك بسياسات عفا عليها الزمن قد يكلفه قاعدة واسعة من المؤيدين الذين يبحثون عن مواقف جريئة ومتوازنة تعبر عن تطلعاتهم. هو اختبار كبير للحزب ومدى قدرته على تجديد رؤيته السياسية والتفاعل مع قضايا العدالة التي أَتخم الناس في حديثه عنها

وجّهت نتائج الانتخابات الأميركية رسالة واضحة بمثابة «رفع الإصبع الوسطى» للحزب الديموقراطي، الذي يواجه تزايد استياء الأميركيين العرب وغيرهم من الناخبين التقدميين، المحبطين من دعم إدارة الرئيس الحالي جو بايدن المستمرّ لإسرائيل وسط حرب الإبادة والتطهير العرقي المتفاقمة في غزة والمتصاعدة في لبنان. وحسب عدد من المؤثرين التقدميين على منصات التواصل الاجتماعي، أثارت هذه المأساة ردود فعل حادة كلّفت الديموقراطيين دعمًا شعبيًا كبيرًا. وعلّقت شخصيات مثل المرشحة الرئاسية عن حزب «الخضر» جيل ستاين، بأن الديموقراطيين «ليس عليهم سوى لوم أنفسهم».

يتناغم هذا الشعور مع انتقادات واسعة ترى أن موقف الحزب الأزرق من غزة أفضى إلى نفور شريحة كانت تقليديًا حجر أساس في انتصاراته. ثم إن إرسال شخصيات مثل الرئيس الأسبق بيل كلينتون إلى مجتمعات ذات غالبية من الأميركيين العرب في ولايات مثل ميشيغان - ذات الوزن الانتخابي الكبير – ليقول بما معناه إنّ العرب يستحقون الموت، وإرسال ليز تشيني، التي قاد والدها مجزرة بحق مليون ونصف مليون عربي في العراق إلى ميتشيغان أيضًا، هو تصرف ساذج وغير مفهوم وينم عن انفصال حقيقي عن الواقع وبعيد كل البعد عن تطلعات تلك المجتمعات. أما نائبة الرئيس والمرشحة عن الحزب الديموقراطي، كامالا هاريس، فقد واجهت أسئلة متكررة خلال حملاتها الانتخابية عن غزة، وردودها التي كررت حقّ إسرائيل في «الدفاع عن نفسها». تصريحات أثارت نفورًا بين من يرون الحرب على غزة قضية حقوق إنسان وعدالة. وقد فسّر كثيرون تصريحاتها حول «أحداث العنف» في السابع من أكتوبر، وذكرها للاعتداءات العنيفة، بصفتها تبريرًا ضمنيًا للقصف على غزة. زادت هذه المواقف من نفور الناخبين الذين كانوا يأملون في موقف متوازن يعترف بمعاناة الفلسطينيين. وعلى الرغم من أنّ الدعم لإسرائيل كان تقليدًا ثابتًا للحزبين الرئيسيين، إلا أن المشهد السياسي كان واضحًا للجميع أنه آخذ في التغير.

أمر آخر لافت للانتباه، هو ما نشره الأستاذ الجامعي والناشط السياسي الفلسطيني-الأميركي ومدير «مركز دراسات الإسلام والشؤون الدولية»، الدكتور سامي العريان، في حسابه على «إكس»، متحدثًا عن نقطة مفصلية حول الانتخابات الأميركية الأخيرة وتأثيرها في الحزب الديموقراطي. أشار العريان إلى أن القصة الكبرى لهذه الانتخابات ليست في الأرقام البسيطة، بل في النسبة الكبيرة من الأميركيين الذين قاطعوا التصويت. في حين شارك أكثر من 155 مليون ناخب في انتخابات 2020 بهدف الإطاحة بدونالد ترامب، لم يصل عدد الناخبين هذه المرة إلى 140 مليونًا، رغم تسجيل أكثر من 10 ملايين ناخب جديد منذ ذلك الحين.

يعتقد العريان أنّ هذا الانخفاض الكبير في الإقبال، لا سيما في الولايات الحاسمة مثل بنسلفانيا وميتشيغان وويسكونسن، يعكس شعور شريحة واسعة من الناخبين بالتذمر وعدم الثقة بالمرشّحين. ورأى العريان أن الدعم غير المشروط من الديموقراطيين للإبادة الجماعية في غزة هو السبب الأبرز لهذه المقاطعة، إذ قرر عدد من الناخبين - ومنهم أفراد من عائلته وأصدقائه - البقاء في منازلهم بدلًا من المشاركة أو دعم مرشحة طرف ثالث مثل جيل ستاين. وأكّد أنّ هذه النتيجة ليست مجرد خسارة في الانتخابات، بل هي دعوة للحزب الديموقراطي لمحاسبة قياداته الذين «باعوا ضمائرهم للشيطان الصهيوني» وفقًا للعريان. يعكس هذا النقد اللاذع خيبة أمل كبيرة تجاه مواقف الحزب، التي يعتبرها العريان مؤشرًا خطيرًا على التوجه المستقبلي له وعلى حجم الاستياء الشعبي إزاء سياسته الخارجية، خاصة تجاه القضايا العادلة مثل القضية الفلسطينية.

في ظل هذا التوتر، قدّمت شخصيات مثل النائبة المسلمة إلهان عمر إعادة تعريف لمعايير الديموقراطية في قضايا الشرق الأوسط. ونجاح عمر في الدفاع عن مقعدها ضد مرشح جمهوري مؤيد لإسرائيل، رغم الدعم المالي الكبير لمنافسها من جماعات داعمة لإسرائيل، يشير بشكل واضح إلى وجود دعم متزايد داخل القاعدة الديموقراطية لسياسات تتحدى الوضع القائم بشأن إسرائيل وفلسطين، ما يعكس وعيًا سياسيًا متزايدًا بأنّ الدعم المفتوح لإسرائيل لم يعد متماشيًا مع قيم هذه القاعدة. وكذلك فعلت النائبة الديموقراطية رشيدة طليب التي حققت فوزًا ساحقًا على منافسها الجمهوري جيمس هوبر في الانتخابات عن الدائرة الثانية عشرة في ميتشيغان، لتؤمن بذلك فترة رابعة كأول امرأة فلسطينية أميركية في الكونغرس الأميركي. وجاء هذا الانتصار بعدما كانت طليب صوتًا بارزًا في انتقادها لهذه الحرب، داعيةً الولايات المتحدة إلى وقف إمداد إسرائيل بالأسلحة. كما عبّرت عن دعمها للاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأميركية، ما جلب لها انتقادات شديدة من الحزبين الجمهوري والديموقراطي. ويأتي فوزها بعد امتناعها عن تأييد كامالا هاريس في الانتخابات الرئاسية لعام 2024، ما يعكس استقلاليتها السياسية وإصرارها على الوقوف ضد السياسات التي تعتبرها مخالفة لمبادئها بشأن العدالة وحقوق الإنسان في فلسطين.

تداعيات هذا التغيير تمتد إلى ما هو أبعد من الأصوات العربية الأميركية، إذ بدأ الشباب والمجموعات التقدمية بالتساؤل عما إذا كان الحزب الديموقراطي يعكس حقًا قيمهم التقدمية. لسنوات، كان الدعم الأعمى لإسرائيل يُعدّ سياسة ثابتة، لكن الفظائع في غزة دفعت نحو مساءلة سياسية جديدة. ومع تصاعد الانتقادات من شخصيات مثل بيرني ساندرز وتكتلات تقدمية أخرى، يواجه الديموقراطيون ضغوطًا لإعادة تقييم سياستهم الخارجية. الديموقراطيون الآن أمام خيار: إما الاستمرار في نهجهم التقليدي مع احتمال خسارة قاعدة أكبر من الناخبين، أو البدء بإعادة تشكيل سياستهم نحو السلام والعدالة وحقوق الإنسان في المنطقة كما هي شعاراتهم.

نتائج هذه الانتخابات أوضحت أنّ الأميركيين العرب والتقدميين وغيرهم من المؤيدين لحقوق الفلسطينيين يراقبون عن كثب. ويبدو أن عصرًا سياسيًا جديدًا قد بدأ، يتصاعد فيه رفض الناخبين الأميركيين لدعم السياسات التقليدية غير النقدية تجاه إسرائيل. صار الناخبون العرب الأميركيون، الذين طالما جرى تجاهل أصواتهم، جزءًا محوريًا في السياسة الخارجية، مطالبين الديموقراطيين باختيار مسار يعترف بالواقع في غزة ويحترم تطلعات العدالة للجميع.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد