هناك شيء من الحزن يلامسنا لدى الحديث عن الملياردير الجنوب أفريقي. كيف لشخص مهووس باستكشاف الفضاء ودفع البشرية نحو آفاق لم يسبق لها مثيل، أن يجد نفسه يسير إلى جانب ما يمثله الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب؟ منذ طفولته الصعبة إلى صعوده كأحد أبرز عقول التكنولوجيا، كانت رؤاه تدور دومًا حول ما هو أبعد من المألوف: استعمار الكواكب، وإنقاذ البيئة، وتحرير التكنولوجيا لخدمة الإنسانية. ورغم كل هذا الشغف الحقيقي، تحوّل مساره ليلتقي برؤية ترامب السياسية، في علاقة بدا فيها ماسك مُهرجًا يقفز فرحًا بسذاجة إلى جانب ترامب في مهرجاناته الانتخابية. فما الذي حصل؟
عاش إيلون ماسك طفولةً مليئة بالتحديات أثّرت بعمق في شخصيته واندفاعه نحو النجاح. ولد في العام 1971 في مدينة بريتوريا في جنوب أفريقيا، لأبٍ مهندس وأم عارضة أزياء واختصاصية تغذية. كانت طفولته صعبة بسبب البيئة الأسرية المتوترة ومعاناته من التنمر في المدرسة. تعرّض للتنمر الجسدي والنفسي من قبل زملائه، ما أدى إلى شعوره بالعزلة والانطواء. في إحدى المرات، أُصيب بجروح بالغة بعدما دفعه أحد زملائه من درج المدرسة وضربه حتى فقد وعيه.
دفعت تلك المصاعب ماسك إلى عالم الكتب والقراءة هربًا من الواقع. كان يقرأ بشغف عن الفضاء والتكنولوجيا، وبدأ بتعلّم البرمجة بمفرده في سن العاشرة. وفي سن الثانية عشرة، صمّم أول لعبة فيديو خاصة به وباعها لمجلة محلية، ما مثّل بداية اهتمامه بالتكنولوجيا والابتكار.
بعد انفصال والديه، عاش مع والده لبعض الوقت، ولكنه وصف هذه التجربة فيما بعد بأنها قاسية ومؤلمة، نظرًا إلى برود علاقتهما وصعوبة التعامل مع والده. هذه التحديات في طفولته، إضافة إلى شغفه المبكر بالتكنولوجيا، أسهمت في تشكيل شخصيته وطموحه اللامحدود، وجعلته يسعى إلى النجاح بعيدًا من البيئة السلبية التي نشأ فيها.
مع صعود نجمه في مجال التكنولوجيا، رأت قبائل الإنترنت في إيلون ماسك، صورة تجسّد «توني ستارك» الشهير بشخصية «الرجل الحديدي» من قصص «مارفل» المصورة؛ ذلك العبقري المبتكر الذي لا يقف شيء في وجه طموحه التكنولوجي. فهو بالنسبة إلى جموع المستخدمين ليس مجرد ملياردير يسعى إلى الربح، بل مغامر يسعى إلى تحقيق أحلام كبرى تسهم في تحسين البشرية. هذا التشابه في السمات والتطلعات جعل ماسك محبوبًا في أوساط الإنترنت وموضع إعجاب شديد، يُنظر إليه بمنزلة أيقونة عالمية، ويتابع حسابه أكثر من 200 مليون شخص على منصته «إكس»، ليكون أشبه بشخصية من عالم الخيال.
وبالرغم من تكلّم ماسك بطريقة قد تبدو كأنه يواجه صعوبة في النطق، فإن هذا أسهم في ترسيخ عبقريته في ذهن الناس، كأنه «كائن فضائي» يعيش بيننا على حد وصف بعضهم. ماسك الذي صرّح من دون خجل بتشخيصه بمتلازمة «أسبرغر» (نوع من اضطرابات طيف التوحد)، تحدّث عن حاله النفسية في مناسبات عدة. في العام 2021، كشف في برنامج Saturday Night Live عن إصابته بهذا الاضطراب، الذي يؤثر في تفاعلاته الاجتماعية وطريقة تعبيره عن مشاعره. والأشخاص الذين يعانون من متلازمة «أسبرغر» يواجهون صعوبة في قراءة الإشارات الاجتماعية وفهمها، ما يجعل تفاعلهم مع الآخرين يختلف عن معظم الناس. ومع ذلك، يتعامل ماسك مع حالته بطريقة فريدة، ويُعدّ في عدد من الأوساط التقنية مثالًا على كيفية التغلب على الصعوبات لتحقيق إنجازات استثنائية. ويرى مؤيدوه أنّ هذه الحالة تعزز قدرته على التفكير المنطقي والتركيز على التفاصيل الدقيقة، ما يساعده في حلّ المشكلات المعقدة وابتكار حلول غير تقليدية.
بعدما بدأ بتحقيق النجاح مع شركاته مثل «تسلا» و«سبيس إكس»، كانت له علاقة معقدة مع السياسيين، ولا سيما مع الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما. في البداية، اتسمت هذه العلاقة بالتعاون والتقدير المتبادل، إذ كان ماسك إحدى الشخصيات التي أُعجبت بسياسات أوباما، وخصوصًا في مجال الطاقة النظيفة والابتكار التكنولوجي. في عام 2009، دُعي ماسك إلى حضور احتفال توقيع أوباما لقانون الطاقة النظيفة، ما دل على دعم الرئيس الأميركي آنذاك للمشاريع التكنولوجية التي يقودها ماسك.
وبالبرغم من أن هذا التعاون كان ينمّ عن احترام مشترك للمبادرات البيئية، إلا أنّ العلاقة بينهما شهدت تغيرات مع الوقت، إذ ظهرت خلافات بينهما، وخصوصًا في ما يتعلق بكيفية تعامل الحكومة مع قطاع الأعمال التكنولوجية من جهة، والأنظمة التنظيمية التي فرضتها إدارة أوباما على الشركات من جهة أخرى. ومع بداية رئاسة دونالد ترامب الأولى، تأرجحت علاقة ماسك مع الرئيس الأميركي بين التعاون والتوتر، وتضمنت بعض التحولات الدراماتيكية. في البداية، حاول ماسك الحفاظ على علاقات جيدة مع الإدارة الجديدة، وانضم إلى مجلس مستشاري الرئيس الاقتصادي في محاولة للتأثير في السياسات الاقتصادية. كان يرى في ذلك فرصة لتعزيز مصالحه، وخصوصًا في مجال الطاقة المتجددة والتكنولوجيا، وقدم مشورته حول ضرورة تشجيع الابتكار في هذه المجالات. لكن مع الوقت، ظهر التباين في المواقف بين الرجلين. بدأ ماسك بانتقاد بعض سياسات ترامب، خاصة في ما يتعلق بانسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية «باريس» للمناخ وتوجهاته في مجال البيئة والطاقة. وفي نهاية المطاف، أعلن ماسك عن انسحابه من المجلس الاستشاري الاقتصادي بعد انسحاب ترامب من الاتفاقية في 4 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2020، ما أظهر انفصالًا بينهما. لكن رغم ذلك، استمر ماسك في التحدث عن ترامب في منشوراته، معتبرًا أنه كان «مثيرًا» ويمتلك «شخصية قوية».
منذ تولي الرئيس الحالي جو بايدن منصب الرئاسة بداية عام 2021، زادت الضغوط الرقابية التي واجهت شركات إيلون ماسك، ما أضاف توترًا واضحًا لعلاقة ماسك بالحكومة الأميركية وغيّر مواقفه السياسية. تعرض لتحقيقات مكثفة من وكالات عدة، مثل «لجنة الأوراق المالية والبورصات » (SEC) و «مجلس سلامة النقل الوطني» (NHTSA) و «اللجنة الوطنية للعلاقات العمالية» (NLRB) ووزارة العدل. أدت هذه التوترات إلى إثارة قلق ماسك حول مستقبل أعماله، ودفعته إلى التحالف مع الجمهوريين. كان لزيادة التدخلات الحكومية تأثير مباشر في شركات ماسك، ولا سيما «تسلا» و«سبايس إكس» ومشروع «ستارلينك». على سبيل المثال، فتح «مجلس سلامة النقل الوطني » تحقيقًا في حوادث مرتبطة بنظام القيادة الذاتية «أوتو بايلوت» في سيارات «تسلا»، وأشار إلى «ثغرات حرجة» تسبّبت في حوادث عدة.
كذلك، رفعت وزارة العدل دعوى ضد «سبايس إكس» بتهمة التمييز ضد طالبي اللجوء والمهاجرين في التوظيف. إلى جانب ذلك، واجه ماسك معارضة من «هيئة الاتصالات الفيدرالية» (FCC) التي رفضت منحه تمويلًا كان مخصّصًا لتوسيع تغطية الإنترنت في المناطق الريفية عبر «ستارلينك»، معتبرةً أن التقنية غير موثوقة. ومن الأمور البارزة التي تركت ندوبًا في العلاقة بين ماسك والحزب الديموقراطي، أنّ البيت الأبيض لم يدعُ ماسك إلى قمة للسيارات الكهربائية العام 2021، رغم أن «تسلا» كانت تمثل نحو 75 في المئة من سوق المركبات الكهربائية الأميركية وقتها.
في هذه القمة، حضر ممثلو شركات مثل «جنرال موتورز» و«فورد»، ما أشعر ماسك بأن الإدارة تتجاهل إنجازاته التقنية الكبرى عمدًا. هذا التوجه، مدعومًا بمخاوف ماسك حول سياسات الرقابة وتنامي النفوذ الحكومي الذي تحبذه الإدارات الديموقراطية، أمر دفعه نحو التحالف مع ترامب، الذي تعهد بتقليص التدخلات الحكومية. ومع تأييد ماسك لترامب في انتخابات 2024، أصبح داعمًا بارزًا للحزب الترامبي-الجمهوري، ساعيًا إلى إحداث تغييرات في السياسات التنظيمية التي صارت تشكل تهديدًا لثروته.
ضغوط إدارة بايدن على ماسك دفعته للانحياز إلى ترامب
لم يكن الرئيس المنتخب دونالد ترامب حريصًا على الحصول على دعم إيلون ماسك المالي في حملته الانتخابية عبر لجنة «أميركا باك» فقط، بل كان يسعى إلى استمالة شخصيته الفريدة نفسيًا. وجد ماسك في ترامب شخصًا يمنحه الانتباه الذي يحتاجه وتقاطع ذلك مع طموحاته ورؤاه المستقبلية. ترامب الذي يمتلك قدرة فطرية على جذب الشخصيات المؤثرة واستخدامها لمصلحته، أدرك أنّ ماسك يمتلك القدرة على التأثير في جمهور واسع وخصوصًا الذكور، سواء عبر منصات التواصل الاجتماعي مثل «إكس» أو عبر مشاريعه مثل «تسلا» و«سبايس إكس».
في إحدى حملات ترامب الانتخابية، سرد الرئيس الـ47 للولايات المتحدة قصة عن صاروخ «ستارشيب» العظيم الذي عاد إلى الأرض ليحظى باحتضان من آلة ضخمة تثبته بعد رحلة فضائية طويلة. سأل ترامب ماسك في تلك اللحظة: «هل يستطيع أحد القيام بذلك؟ هل تستطيع الصين فعل ذلك؟»، ليجيب ماسك: «كلا، فقط أنا». وأضاف ترامب حينها بابتسامة: «لهذا السبب أحب إيلون». هذه لحظة حميمية تعكس علاقة خاصة بين الرجلين، تجمع بين الاحترام والتقدير، ليس فقط من زاوية الابتكار التكنولوجي ولكن أيضًا لجهة الإعجاب الشخصي بقدرة ماسك على تحقيق المستحيل. هكذا، عبر تحوّله إلى أب، نجح ترامب في منح أغنى رجل في العالم نوعًا من الاحترام والفخر الذي يفتقر إليه من السياسيين الآخرين وحتى من والده.
المفوضية الأوروبية: التحقيقات مستمرّة مع «إكس»
أكدت المفوضية الأوروبية في الأيام الماضية، على أن أي دور سياسي محتمل لإيلون ماسك في إدارة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب لن يؤثر في التحقيقات الجارية في منصته «إكس» بشأن احتمال انتهاكها لقانون الخدمات الرقمية (DSA). وكان إيلون ماسك قد أبدى اهتمامًا بدخول الساحة السياسية في الولايات المتحدة، وأعلن عن استعداده لتولي دور في إدارة ترامب. وأشار ماسك إلى أنه سيكون منفتحًا على قبول منصب وزاري أو مستشار خاص في الحكومة المقبلة. وتخضع «إكس» للتحقيق من المفوضية الأوروبية منذ كانون الأول (ديسمبر) 2023، وتركّز المخاوف على استخدام المنصة لأنماط «مظلمة» وفشلها في التعامل بشكل مناسب مع المحتوى غير القانوني. ومن المتوقع أن تنتهي المفوضية من تحقيقاتها قريبًا، رغم أنه من غير الواضح ما إذا كانت ستنتهي قبل تولي ترامب منصبه في 20 كانون الثاني (يناير) 2025. ومع ذلك، أكدت المتحدثة باسم الاتحاد الأوروبي أنّ الانتخابات الأميركية لن تؤثر في تطبيق قانون الخدمات الرقمية في دول الاتحاد. وقالت المتحدثة: «الانتخابات في الولايات المتحدة لن تؤثر في عملنا في تنفيذ الامتثال لقانون الخدمات الرقمية في الاتحاد الأوروبي».
يمنح قانون الخدمات الرقمية المفوضية الأوروبية السلطة لفرض غرامات على الشركات والأفراد المسؤولين عن تشغيل المنصات الكبيرة عبر الإنترنت. وبينما لم تحدد المفوضية بعد ما إذا كان ماسك نفسه يعتبر المزوّد الشخصي لـ «إكس»، لا يزال هذا السؤال محوريًا. فإذا جرى اعتبار ماسك مسؤولًا قانونيًا عن عمليات «إكس» (على شاكلة ما حصل مع مؤسس تليغرام، بافل دوروف)، فإن أي غرامة قد تفرض بسبب انتهاك قانون الخدمات الرقمية قد تستند إلى إيرادات إمبراطوريته التجارية على مستوى العالم، بما في ذلك شركاته الأخرى مثل «تسلا» و«سبايس إكس».
كما أوضحت المتحدثة باسم الاتحاد الأوروبي أنّ هوية المزوّد ستكون واضحة فقط خلال عملية اتخاذ القرار. وقالت: «من الضروري فقط تحديد مزود المنصة الكبيرة عبر الإنترنت في مرحلة القرار النهائي». نتيجة لذلك، قد يؤثر تحديد المسؤول عن «إكس» في كيفية حساب الغرامات؛ وبينما أعرب ماسك عن اهتمامه بتولي دور سياسي في إدارة ترامب، يبدو أنه من غير المحتمل أن يمنحه هذا أي حصانة من القوانين الأوروبية. وقال خبير الشؤون الأوروبية، جي. سكوت ماركوس، لموقع «يورونيوز»، إن المسؤولين الحكوميين الأميركيين يتمتعون عمومًا ببعض الحصانة، لكن هذه الحماية لا تنطبق عادةً على الأفعال الشخصية التي تحصل قبل توليهم المناصب العامة. وأضاف ماركوس: «أشك بشدة في أنّ أيًا من هذه الأمور سيشمل ماسك، لأن هذه الأفعال كانت تجري في سياق شخصي أو خاص قبل تعيينه».
لقد نشب خلاف بين ماسك والمفوض الأوروبي السابق للصناعة تييري بريتون بشأن الامتثال لقواعد الاتحاد الأوروبي الخاصة بمنصات التواصل. ورغم أن بريتون لم يعد يشغل منصبه، فقد أوضح أنّ الاتحاد الأوروبي سيواصل فرض العقوبات إذا لزم الأمر. وقال بريتون: «يجب تطبيق العقوبات على الجميع ويجب أن تخضع للتدقيق»، مؤكدًا أنّ سيادة القانون هي الأولوية.
مع ذلك، تثير إمكان فرض غرامة شخصية على ماسك أسئلة معقدة. إذ عادة ما تكون الغرامات بموجب قانون الخدمات الرقمية استنادًا إلى إيرادات مزوّد المنصة، التي قد تشمل عائدات من شركات غير مرتبطة بشكل مباشر بـ «إكس» مثل «تسلا» و«سبايس إكس». وصحيح أن هذا قد يبدو بعيدًا من المنطق، إلا أنّ الإطار القانوني للاتحاد الأوروبي يسمح بفرض هذه الغرامات، رغم أن بعض الخبراء، مثل ماركوس، يقترحون أن المحاكم الأوروبية قد لا تدعم فرض غرامة محسوبة بناءً على إمبراطورية ماسك التجارية الأوسع.
إذا تولى ماسك منصبًا في إدارة ترامب، فقد يعقد ذلك العلاقة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وخصوصًا إذا فرضت غرامة شخصية على ماسك بسبب مخالفات تتعلق بـ «إكس». وقد انتقدت شركات التكنولوجيا الأميركية الكبرى مثل «ميتا» و«آبل» بالفعل البيئة التنظيمية الصارمة في الاتحاد الأوروبي، وقد يسهم دور ماسك السياسي في تأجيج الاتهامات التي تشير إلى أنّ الاتحاد الأوروبي يستهدف الشركات الأميركية.