هي حلقة جديدة من العدوان الإسرائيلي الهمجي على لبنان وأرضه وإنسانه تُستكمل بالإبادة الممنهجة للتاريخ الثقافي والحضاري اللبناني والمواقع الأثرية والتراثية ولا سيما في البقاع والجنوب، وكان آخر فصولها الغارة التي شنّها الطيران الصهيوني على دارة كمال ظاهر يوم السبت الفائت في النبطية. دارة احتضنت حتى عام 2019 المقر الرسمي لـ «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» وأنشطته في حاضرة جبل عامل. وقد شكّل المركز الذي افتتح عام 1997 أحد أضلاع المثلث الثقافي الإبداعي في المدينة مع «نادي الشقيف» و«مركز كامل يوسف جابر الثقافي».
المثلّث كانت له حصة الأسد من النشاطات الثقافية في مدينة الثقافة والانفتاح والعلم. المجلس التي انعقدت جمعيته العامة الأولى في كانون الثاني (يناير) العام 1965 في دارة العلامة عارف الزين في صيدا، شكّل هيئته الإدارية الأولى برئاسة عبد الرؤوف فضل الله ومن بعده زيد الزين ثم حبيب صادق الأمين العام للمجلس منذ عام 1975 ليخلفه الأمين العام الحالي عبد الله رزق.
لقد كان قد حطّ رحاله في تسعينيات القرن الماضي في النبطية في بناء مستأجر من آل باقر قرب «نادي الشقيف» عند المدخل الجنوبي للنبطية، وما لبث أن انتقل بعد سنة واحدة إلى المركز المستحدث في البيت التراثي لآل ظاهر الذي صار علامةً فارقة في الحياة الثقافية النبطانية حتى إغلاقه العام 2019 لأسباب مادية، وقد احتضن المئات من الأمسيات الأدبية والثقافية والفنية ومعارض للصور والفن التشكيلي والندوات والمحاضرات السياسية، واستقبل بالإضافة إلى المبدعين اللبنانيين أسماء عربية وأجنبية وازنة مثل نعوم تشومسكي، وصادق جلال العظم، ومنير بشير، ومحمود أمين العالم، وطيب تيزيني، وليلى خالد، وفتحية العسّال وزين العابدين فؤاد وغيرهم.
كما تعاون مع جمعيات أهلية ومدنية عدّة منها بلدية النبطية وجمعية «بيت المصور» و«جمعية تقدم المرأة» و«جمعية البيئة والإنسان» برئاسة فضل الله حسونة من بلدة الريحان، التي أخذت على عاتقها ترميم المقر بعد تضرره جزئيًّا في أعقاب عدوان تموز عام 2006. ترأس فرع النبطية الراحل حبيب صادق، ثم المحامي سمير فياض وأخيرًا الإعلامي كامل جابر، الذي واصل إشرافه حتى اليوم على أنشطة المجلس في مبنى «جمعية تقدّم المرأة» في مقرّها في بلدة كفرجوز المتاخمة للنبطية.
لقد رثى جابر في منشور مؤثر على صفحته الفايسبوكية تلك الصفحة المشرقة من التاريخ الثقافي للمجلس التي تناثرت ذكرياتها تحت الركام، مستذكرًا المكان ومن مرّ عليه من مبدعين، ومستحضرًا جدلية العنفوان والذاكرة التي تدين المحتل الساعي إلى طمس ذاكرتنا الإنسانية والحضارية: «لنا تحت كلّ قرميدة نبتت قصيدة، وهنا تلا حبيب صادق والفيلسوف العالمي نعوم تشومسكي، ومحمد علي شمس الدين، وجوزيف حرب، وشوقي بزيع، والياس لحود، وحسن عبدالله، ومحمد العبدالله، وجواد صيداوي، وحسن داود، وجان شمعون، وبرهان علوية (...) وألف أديب وشاعر وفيلسوف ومخرج وفنان وتشكيلي ألف صلاة وصلاة... هنا على ضفاف الذاكرة والعنفوان، نبت الأقحوان كل عام وما انقطع… دارة أحمد ضاهر والمحامي حسيب ضاهر وحاليًا الحفيد كمال ضاهر، الذي كان مركز «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» طوال عشرين عامًا في مهب العدوان… ألا تكسرت أيادي السوء والدمار العدوانية التي ما فتئت تفتك بمقدراتنا الثقافية والتراثية والأثرية؟».