نواصل عرضنا التحليلي لدحض باقة من الاكتشافات الآثارية المزيفة أو المبالَغ بأهميتها لـ «سلطة الآثار الإسرائيلية» التي تصاعدت أخيرًا متساوقةً مع تصاعد حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الكيان على الشعبين الفلسطيني واللبناني. سنتوقف بشكل خاص عند مشروع قانون جديد سيقدم إلى الكنيست يهدف إلى الاستيلاء على آثار الضفة الغربية، وقبل ذلك نتوقف عند هذين الاكتشافين:
فينيقيون في أورشليم القدس
يخبرنا موقع geo.fr الناطق باللغة الإنكليزية عن اكتشاف قطعة أثرية ذهبية صغيرة، بحجم زر القميص (4 × 4 × 2 مم). وقد رُبط هذا الاكتشاف بعصر الهيكل الأول، فعنوان الخبر يقول: «أقدم قطعة أثرية ذهبية يعود تاريخها إلى عصر الهيكل الأول».
ويضيف المحرر: «اليوم، وبفضل اكتشاف جوهرة فينيقية نموذجية في تل أوفل، لدينا أدلة أثرية مقنعة على وجود فينيقي في القدس في القرن العاشر قبل الميلاد». ويوضح برنت ناجتيجال: «لدينا الآن أقوى دليل أثري حتى الآن يؤكد أن الخدم الفينيقيين قد أُرسلوا بالفعل إلى القدس». أما على صفحة ARMSTROG الناطقة باسم «معهد الآثار التوراتية»، فثمة تقرير مصوّر ومفصل بقلم برنت ناجتيجال، يُفهم منه أن هذا الاكتشاف يتعلق بـ «قلادة ذهبية صغيرة» يسمّيها أحيانًا قرطًا وأحيانًا أخرى «سلَّة أوفل المسبوكة» (Ophel Electrum Basket)، وهي حلية صغيرة لا تتجاوز مساحة قاعدتها أربعة مليمترات. يستعيد ناجتيجال في ثلث تقريره ما ورد في التوراة عن العلاقات بين ملك صور حيرام وملك يهوذا داود، وكيف أرسل له خشب الأرز والنجارين وصاغة الذهب...، وكيف تعلم صُناع داود الصياغة من الفينيقيين، ثم يربط هذه القصص التوراتية بالاكتشاف الجديد من دون أن يقدم لنا دليلًا ملموسًا واحدًا على صحة وتأريخية هذا الربط أو على فينيقية الحُلية الذهبية الخالية من أي كتابة.
في غمرة حماسته للقصة التوراتية، يخبرنا المحرّر في زلة لسان أنه سبق أن شاهد صورًا لنماذج من هذه الحلية الذهبية الفينيقية في كتاب، حيث عُثر على اثنتين منها في مستعمرة فينيقية في قبرص، وكانتا مؤرختين في المدة الزمنية نفسها، وعلى أخرى في قادس في إسبانيا، وعلى نموذجين منها في المعابد الكنعانية في بيت شان (بيسان) في شمال شرقي القدس العام 1940، وعلى سادسة اكتشفت في حفريات تل الفرح جنوب فلسطين في ثلاثينيات القرن الماضي. وهكذا نسف ناجتيجال قصته التوراتية بتقديمه أدلة على وجود هذا النوع من الحُلي الذهبية الفينيقية في أماكن عدة وصلها التجّار الكنعانيون الفينيقيون في حوض البحر المتوسط وفي جنوب فلسطين، بما يضعف أي علاقة متخَيَّلة لها بالهيكل الأول والملكين حيرام وداود! الأمر، إذا، لا يتعلق باكتشاف تحفة فينيقية فريدة من نوعها، بل بحلية شائعة صغيرة عثر على عدة نماذج منها في فلسطين وخارجها، وهذا يعني أنّ حُلية أوفل ليست دليلًا على صحة أو تأريخية أي جزء من أجزاء القصة التوراتية التي يتسلّى بسردها محرر التقرير.
إن ناجتيجال ذو خيال خصب بشكل مفرط. لذلك توصل إلى أنّ هذا الزر الذهبي الصغير كان يحمله خادم فينيقي ــــ أيام كان الخدم لا يجدون ما يأكلونه بسهولة ـــ وأنه أُرْسِلَ ضمن مجموعة من الخدم من «فينيقيا» ، إلى بلاط الملك داود في أورشليم القدس، كأنّ الفينيقيين مخلوقات فضائية قَدِمت من كوكب آخر لا من إقليم مجاور شمال فلسطين يتداخل مع الجليل الفلسطيني الأعلى! من الواضح أنّ ناجتيجال يريد أن يُفهِم قارئه - وبشكل يخلو من خفة الدم - أنّ هؤلاء الخدم الفينيقيين أرسلوا من قبل الملك حيرام ليعملوا في قصور إمبراطورية عاصمة داود ذات الألفي نسمة في القرن الحادي عشر ق.م!
لقد فاق ناجتيجال في تلفيقاته زميله داني دانون، مندوب «إسرائيل» لدى الأمم المتحدة، مطلق الكذبة الآثارية المدوية العام 2017. إذ عرض عملة صغيرة من العام 76 م، كُتب عليها «حرية صهيون» كدليل لا يدحض على أنّ «القدس جزء لا يتجزأ من تاريخ إسرائيل ومن عقيدتها». وقد أيده في مزاعمه جندلمان المتحدث باسم مكتب رئيس حكومته. لكن الباحث الفلسطيني أحمد الدبش دحض هذه المزاعم دحضًا رصينًا حين أكد «إنَّ نسب العملة المعدنية [التي تمّ سكها في العام 67 بعد الميلاد] إلى اليهود، هو كذب تاريخي، فلم يسجل على العملة اسم السلطة التي قامت بإصدارها، فكيف تسنى لهم نسبتها إلى اليهود؟! ومن المؤكد أن النقود في هذه الفترة كانت رومانية برموز فلسطينية، ولم يكن لليهود أي كيان سياسي أو اقتصادي مستقل في فلسطين آنذاك».
بوابة إسرائيل الأولى عمرها 5500 عام
في شهر آب (أغسطس) 2023، أعلنت مواقع عدة في الكيان (geo.fr ــــ وi24news)، عن اكشاف خارق جديد لـ «بوابة حجرية عمرها 5500 عام في «جنوب إسرائيل» في منطقة تسمى تل عراني (كريات جت) شمال شرقي قطاع غزة. وهي كما يقول الخبر «أقدم بوابة معروفة حتى الآن في المنطقة ». لنلقِ نظرة على خلاصة الخبر، ثم نعود إلى تفكيكه وإظهار مدى استخفافه بعقول الناس: «أثناء التنقيب في مدينة تل عراني القديمة، اكتشف الفريق البحثي ممرًا عمره 5500 عام، مبنيًا من الحجارة والطوب الِلبن، ما يشير إلى أن التحضر في المنطقة بدأ قبل قرون مما كان يعتقد سابقًا. وقالت إميلي بيشوف، مديرة التنقيب في سلطة الآثار الإسرائيلية: هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها اكتشاف مثل هذه البوابة الكبيرة التي تعود إلى أوائل العصر البرونزي».
هل لاحظتم كيف تحولت البوابة الحجرية الكبيرة إلى ممر، ثم إلى سور، أو حصن؟ والغريب أنها شيء آخر تمامًا كما يتبين لنا بنظرة واحدة إلى صورة الموقع الآثاري المعني وكما سنوضح. ويضيف التقرير «اشتهرت منطقة تل عراني بالتوسع الحضري المبكر في إسرائيل، إذ شهدت استقرارًا سكانيًا تجاوز الـ 37 فدانًا في العصر البرونزي المبكر، بدءًا من حوالى 3300 قبل الميلاد، وربما يرجع إلى وقت مبكر أكثر حتى 3500 قبل الميلاد».
في الأسطر الأربعة الأخيرة، ثمة سلسلة من الأكاذيب والتلفيقات والأخطاء الفادحة ومن ذلك:
يتحدث التقرير عن «بوابة إسرائيل» علمًا أنّ المتفق عليه بين الاختصاصيين أنه لا وجود لشيء اسمه «إسرائيل» أو العبرانيين أو بني إسرائيل في العصر البرونزي المبكر (3400 -2900 ق.م) ولا في تلك المنطقة الكنعانية التي استقر فيها «الفلسطة» المهاجرون بعدها، والتي لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالمملكتين التوراتيتين المزعومتين يهوذا وإسرائيل الشمالية. وإذا كان محرر الخبر يقصد مملكة إسرائيل الشمالية، فتلك كانت رقعة صغيرة حول مدينة السامرة شمال غرب شكيم الكنعانية (نابلس العربية)، ولم تمتد حتى إلى أورشليم -القدس.
ووفق التحديد الزمني التوراتي، فقد عمَّرت المملكة الشمالية لقرنين تقريبًا، بين 928 ق.م. وحتى 722 ق.م، فعن أي إسرائيل يجري الحديث إذن؟ أعن إسرائيل الحالية أم القديمة التوراتية؟ وما علاقة إسرائيل الحالية أو حتى القديمة بالعصر البرونزي المبكر، إذا كان أول ذكر للعبرانيين أو من يحملون اسمًا قريبًا منهم (الخابيرو - العابيرو) ظهر بعد هذا التأريخ بأكثر من ألفي عام وباتفاق علماء الاناسة والآثار استنادًا إلى رسائل تل العمارنة التي أفادت بأنّ قبائل الخابيرو قد احتلت مدينة شكيم عام 1360 ق م وليس قبل 3500 ق.م؟. وتضيف إميلي بيشوف: «ما يثير الاهتمام في هذه البوابة هو أنها بنيت جزئيًا من طوب اللبن وجزئيًا من أحجار متجانسة، وهذه الأحجار أكبر مني، والعملية تطلبت جلب المواد من مسافة بعيدة، فضلًا عن تصنيع مئات أو آلاف الطوب اللبن. وأن نظام التحصين دليل على التنظيم الاجتماعي الذي يمثل بداية التحضر».
إنَّ مَن يشاهد صورة الموقع المرفقة بالتقرير لا يرى بوابة حجرية ضخمة ولا أسوارًا ولا مدينة أو مستوطنة متحضرة. ثمة ركام فوضوي من أحجار بعضها ضخم وأخرى صغيرة ومبعثرة، ربما باستثناء بقايا حائط من أحجار مرتبة بشكل بدائي قد لا يزيد طوله على مترين أو ثلاثة. الباحث في «سلطة الآثار الإسرائيلية» باسترناك، تغزل بهذه الأحجار قائلًا: «من المحتمل أن جميع المارة، سواء كانوا تجارًا أو أعداء، الذين أرادوا دخول المدينة، كان عليهم المرور عبر هذه البوابة الرائعة ». ويضيف: «لم تدافع البوابة عن المستعمرة فقط، بل نقلت أيضًا رسالة مفادها أن المرء يدخل إلى مستعمرة قوية ومهمة، وكانت منظمة تنظيمًا جيدًا سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا». أما هذا الكلام «السياحي»، فمثير للضحك حقًا. والأكيد أنّنا لو سألنا باسترناك عن أي مدينة أو مستعمرة يتحدث، وهل يعرف اسمها وهل لديه دليل على وجودها غير هذه الأحجار، لحارَ جوابًا!
قانون هليفي
تأريخيًا، شعر مؤسسو الكيان والحركة الصهيونية المعاصرة التي بدأت كحركة مسيحانية «بروتستاندية » عارضتها غالبية يهودية، بأن مشروعهم يفتقد إلى التوازن والعمق التأريخي المطلوب، حتى بعدما نجحوا بدعم غربي واسع النطاق وأقاموا كيانهم طالما بقيت منطقة الضفة الغربية ــــــ التي ما زالوا يسمونها في خرائطهم ووثائقهم «يهوذا والسامرة» ــــــــ تحت السيطرة السكانية والإدارية منزوعة السيادة للفلسطينيين. ويبدو أن الصهاينة الدينيين المتشددين المشاركين في التحالف الحاكم يحاولون حسم هذا الأمر عبر مفاقمة الاستيطان في الضفة وشن حملة تهجير، وأخيرًا الاستيلاء على القاعدة المادية والعلمية للتراث الحضاري الفلسطيني القديم في الضفة عبر تشريع قانون جديد.
رد «الوزير النووي » إلياهو قائلًا إنّ «أرض إسرائيل تعود إلى الشعب اليهودي ولا توجد أي حقوق قومية لأي شعب آخر»
ففي شهر تموز (يوليو) الماضي، أعلن عضو الكنيست عن الليكود عميت هليفي أنه حصل على دعم الحكومة لتقديم مشروع قانون يحمل اسمه ويقضي بضم الآثار القديمة في الضفة الغربية قانونيًا وفعليًا لـ «سلطة الآثار الإسرائيلية». وبموجب مشروع القانون الجديد، فإنَّ السلطات الآثارية الإسرائيلية الرسمية ستعمل في الضفة الغربية مثلما تعمل في أراضي الكيان، وستطبق القانون الإسرائيلي في الضفة الغربية. وهذا يعني أنّ وزير «التراث» الإسرائيلي المتطرف -الذي دعا علنًا إلى إبادة الفلسطينيين بإلقاء قبلة نووية على غزة - عميحاي إلياهو سيتمكن من ممارسة صلاحياته كوزير في ما يسمونها «إسرائيل الكبرى» أي على جميع الأراضي الفلسطينية!
سيعتبر مشروع القانون المزمع إقراره انجازًا للحملة الكبيرة التي تطلقها جمعيات اليمين في السنوات الاخيرة حول المواقع الأثرية في الضفة الغربية. لكن صاحب المشروع هليفي لم يتشاور مع الوزير إلياهو، ولا مع «سلطة الآثار» ولا مع «أكاديمية العلوم» أو مع «مجلس الآثار».
ينطلق رفض «أكاديمية العلوم» لمشروع القانون من اعتبارات علمية منها «أنّ الآثار وتراث فلسطين ليسا محصورين بالآثار اليهودية إنْ وجدت بل يمتدان عميقًا في التاريخ قبل ظهور العبرانيين أو اليهود بآلاف السنوات، وهذه الآثار ليست ملكًا لعرق أو دين معين، بل هي ملك للإنسانية جمعاء كسائر الآثار في العالم».
كما عارض مدير عام «سلطة الآثار» إيلي ايسكوزيدو المشروع لأسباب إدارية ولأن أحدًا لم يتشاور معه، وربما لأنه لا يريد لليكودي هليفي أن ينفرد بهذا «الإنجاز».
أما رئيس «مجلس الآثار» غاي شتيفل، كما كتب نير حسون في صحيفة «هآرتس»، فقد كان أكثر وضوحًا وانسجامًا مع رأي بعض العلماء والباحثين الإسرائيليين المهنيين والمنصفين، فكتب في رسالته إلى الوزير إلياهو: «بصفتي ممثل إسرائيل في مجلس الآثار الأوروبي، فإنه يمكنني القول إن مجرد طرح مشروع القانون، وليس أقل من ذلك إذا تمت المصادقة عليه، ستكون له موجات ارتداد وسيتسبب في أضرار دولية لا يمكن تقديرها». وأضاف شتيفل: «وبدلًا من التفاخر بأننا نحافظ على الماضي المجيد لتاريخ هذه البلاد الرائعة، بدءًا من فترة ما قبل التاريخ وحتى الآن، فإن مشروع القانون الذي يوجد أمامنا يسعى إلى تقويض أسس الآثار والتراث التي من المهم التأكيد على أنها لنا جميعًا. الحديث هنا لا يدور فقط عن الآثار اليهودية، كما تم الادعاء، بل يدور عن الجشع لحيازة أشياء تمثل تراثًا عالميًا متعدد الثقافات، وهي للبشرية كلها». وفق أقوال شتيفل، فإن القانون سيؤدي إلى إبعاد إسرائيل عن الأبحاث وصناديق الأبحاث الأوروبية وعن العضوية في منظمات مهنية وهيئات تحرير ومجلات وما شابه.
أما رد «الوزير النووي » إلياهو على رسالة شتيفل، فقد جاء متعجرفًا وعنيفًا خلاصته أنَّ الرسالة مليئة بالأكاذيب وأنّ «أرض إسرائيل تعود إلى الشعب اليهودي ولا توجد أي حقوق قومية لأي شعب آخر».